تحيي تركيا هذه الأيام الذكرى الـ743 لوفاة المتصوف الكبير سلطان العارفين جلال الدين الرومي المعروف بـ«مولانا»، بمراسم واحتفال تقام في مدينة قونيا وسط تركيا، التي توفي فيها.
يعرف هذا الاحتفال بـ«شبِ عروس» بالفارسية أو ليلة العرس، التي كان ينتظرها الرومي ليعود إلى الذات الإلهية. إنه على رغم الخلاف الكبير الذي شهدته حضارتنا الإسلامية بين المتصوفة والفقهاء، بين أهل الحقيقة وأهل الشريعة، بين أهل الحديث والأثر ومن اختلف معهم من أصحاب الطرق، فإن الرومي مثل في العقود الأخيرة أجمل ما يمكن أن يكتشفه العالم عن الجانب الروحي للإسلام. الرومي هو دعاية باذخة الجمال وفاخرة القيمة لكل من يطمح إلى التعرف إلى الإسلام من بوابة العرفان. والمولوية يثيرون دائماً غيرة نظرائهم من أصحاب الطرق الأخرى. «وقت الوحدة» أو التوحد هو اسم هذه الاحتفالية الكبيرة لأننا «نأتي إلى هذه الدنيا لنكون شيئاً واحداً».
ويقول الباحث التونسي محمد بن الطيب إنه إذا كان الصوفية يعتقدون أن الطرق إلى الله على عدد أنفاس الخلائق، فإن «مولانا» جلال الدين الرومي انطلاقاً من هذا المبدأ قد اتّخذ طريقاً إلى الله غير مألوف سلوكه عند الصوفية، وهو طريق الموسيقا والرقص. فقد تجاوز الرقص عنده الوظيفة التعبيرية الإيحائية ليستبطن رؤية للعالم تخرج عن السائد، ذات طابع وجداني ومنزع روحاني وبُعْد أنطولوجي، فالرومي يرى أنّ في توقيعات الموسيقا سرّاً خبيئاً لو كشفت عنه لتزعزع العالم، وأنّ الرّبابة وإن كانت مجرّد وتَر يابس، وخشب يابس، وجِلْد يابس، فإنّ منها يخرج صوت المحبوب.
«لقد زوَّد النايُ الرومي برمز مثالي للنفس التي لا يمكن أن تنطق بالكلمات إلا عندما تمسّها شفتا المعشوق وتحرّكها نفس المرشد الروحي». ولعلّ في ذلك ما يفسر عظيم اهتمام الرومي بالناي، فلقد بدأ «المثنوي» بحديث عنه ووصف نغماته بأنّها حنين إلى منبته الذي قطع منه قبل أن تتناوله يد البشر لتشكل منه تلك الآلة الموسيقية الشجيّة.
لقد أصبحْتُ أنوحُ في كلِّ مجتمع ونَادٍ، وصِرْتُ قرينًا للبائسين والسُّعَداء
لقد جاء الإنسان النزّاع إلى الكمال من عالم الغيب، وسقط في هذا العالم المادي بمشيئة القدر الإلهي، فأضحى أسير علاقته ببني جنسه واحتياجه إلى الطبيعة، فاستشعر قلبه الغربة، فحملته تلك الوحشة على التحرر من الشهوات والتعلّق بالحقّ ليكون مَجْلىً لإرادته. كما يشرح الطيب.
في مراهقتي وشبابي المبكر عرفت عبر أشياخي عن جلال الدين الرومي شيئاً واحداً، هو أنه من «زنادقة المتصوفة»، ولم يكن من سبيل إلى الوصول إلى تراثه ولا لاكتشاف فلسفته. في الحقيقة إن أمثالي وقتها من الغرباء التائهين في أواخر العشرينيات كانوا عطاشاً إلى تعاليم وفلسفة الرومي، فقد كنا معذبين وضالين، نهيم في كل واد.
وحسب الباحثة الفرنسية كريستين كوسايفي فإن جلال الدين يحترق رغبة في المحبوب، وتأكله نار العشق في انتشاء تطهّري يفسخ في ذاته كلّ أثر للوعي، وهو أيضاً مُربٍّ فاضل ومعلّم متيقّظ، تمكّن من خلال تفكّره الذاتي ورؤيته العقلانيّة للكون، من إدراك التنظيم المنطقي حتّى في خصوصيّة الذرّة.
ويعد مولانا مؤسس طريقة «المولوية»، وهو في الوقت نفسه شاعر وفقيه متصوف، وكان الرومي مثالاً عظيماً للتسامح، وكان يحيط به أشخاص من الديانات والملل الأخرى من المسيحية واليهودية وغيرها، وضرب مثالاً للتعايش معهم، وتقبل آرائهم وأفكارهم، وكان كل من يتبع مذهبه، يرى أن في كل الديانات خيراً، وهذا ما يجب أن يكون بوابة عبور المسلمين إلى المستقبل، الاعتراف بكل الديانات وأنها كلها سبل متعددة للوصول إلى ملكوت السعادة الأبدية.