في الأيام الماضية حصل تطور مثير للاهتمام في السعودية، يصلح مثالاً يدرس للمعنيين بتأثير شبكات التواصل الاجتماعي في قيم المجتمعات وحقيقة تأثيرها، وهو خيبة الأمل التي شعرتْ بها مجموعة سعوديات انخرطن في حملة امتدت شهوراً ثلاثة تدعو إلى إسقاط الولاية، وهذه الخيبة سببها اكتشافهن أن مئات المعرفات الناشطة على تويتر لم تكن حقيقية، وأن واحدة من القصص المؤثرة عن معاناة فتاة سعودية وقعت ضحية ولاية إخوتها عليها، وأشعلت شبكات التواصل وأعطت دفعة للحملة لم تكن حقيقة، بل مفبركة. وعمَّقت الصدمةَ لديهن قناعتهن بأنه ربما أن كثيراً من المعرِّفات ومطلقي الهاشتاقات لم يكونوا إلا جهات معادية للسعودية. إنهن الآن يتجرعن مرارة الشعور بالغدر والخديعة.
ومع أنني أحمل، كغيري كثير ممن يراقبون بصمت، تعاطفاً صادقاً مع ما تعانيه السعوديات من إجراءات تسعى الحكومة إلى تخفيفها، فإنني أتفهم جيداً من حيث المبدأ شعور كل من يرى في نفسه القدرة على دعم ما يراه حقاً مشروعاً لأي جنس أو فئة أو شريحة اجتماعية. إن بعض اللواتي انسقن في هذه الحملات كان دافعهن الإحساس بالواجب، أو تجنب الشعور بالذنب إن بقين متفرجات، أو أنهن كن ضحية لسوء استغلال حق الولاية، وقاسين ضرراً مباشراً جراء حيف لحق بهن، وسوء استغلال قريب كان ولياً عليهن. إلا أن ما يغيب عن كثير منهن أن امتلاء الإنسان بفكرة واحدة، تراها هي منبع السعادة، وسبيل النجاة والخلاص من أحزانها، ترى العالم من خلالها، وتقيس الأشياء بها، وتقيِّم الآخرين من مدى إيمانهم أو إخلاصهم لها، هي ذاتها رؤية قاصرة تتجاهل التطور وتعقد المجتمع وتداخل العادات والقيم، والاحتياجات الحقيقية. في المعادلة دائماً عنصر جوهري حاسم في أي تغيير وإصلاح اجتماعي، هو عامل الزمن، فعل الليل والنهار بنا وبقناعاتنا وبثوابتنا وباحتياجاتنا ومصالحنا، أي التحولات والتقلبات والزلازل التي تشكل العوامل الكبرى والرافعات للتحولات الاجتماعية.
ن كثيراً ممن هن فوق الثلاثين يعلمن يقيناً أن الملايين من السعوديات عبر الأزمنة عشن راضيات أو سعيدات وبلغن أرذل العمر وهن يحمدن الله على الستر والكفاف والغنى وحب ورحمة الأزواج، وصلاح الأبناء وشفقة الآباء والإخوان. الرضى يجعل الإنسان أكثر تصالحاً مع محيطه، وأقدر على الانسجام والعطاء، وإذا زاد الوعي عند الإنسان ذكراً أو أنثى في بيئة تحتاج وقتاً لسماع صوت جديد، قد يكون عذاباً وألماً ويستحيل مرارة واغتراباً وعقداً نفسية.
الغالبية ممن شاركن وأعمارهن فوق الثلاثين قد قضين أحلى أيام طفولتهن وريعان الصبا والشباب الباكر وهن يرفلن بنعمة الآباء والإخوة الذين يرعونهن ويخافون عليهن. ولكن ثمة شيئاً حدث، ولم يكن حصوله على حين غرة، بل كان يمتد ويتسع هادئاً ولكن تأثيره أشبه بقطرات الماء على الصخرة الصماء، فهو مع كل ثانية يحفر ويطرق في قيم مجتمع بقي مئات السنين وفياً لقيمه، يعيد إنتاجها، وينتج الأدب الذي يتغنى بها، ويراها منبع فخره وأصالته وامتيازه، ولكن هذه القيم هي منذ ما يقارب عشرين عاماً عرضة للعصف والزلازل، وعلينا أن نتوقع أن تكون لهذا نتائجه القاسية وتحولاته المؤلمة على الفتيات والفتية، فملايين منهم عالقون اللحظة هذه بين عوالم متداخلة ممتزجة، بين البيت والمدرسة والشارع والإنترنت والفضائيات. وواحد من أسباب الأسى أن بعض من يستفقن من عالم الإنترنت إلى الواقع المعيش، لا يجدن أي أثر لصرخاتهن في عالم حقيقي معقد، يلهث الناس فيه وراء الرزق والكفاف والتعليم الجيد والضمان الصحي.
وفي النهاية فإن أمامنا حقيقة ماثلة، وهي أن العالم يتغير ونحن السعوديين جزء منه.