للمرة الرابعة خلال 13 عاماً، أكتب عن الأمة الإندونيسية. تحضرني حلقة من برنامج بانوراما على تلفزيون «روسيا اليوم»، قبل سنتين نوقشت فيها مسألة دور مستقبلي محتمل لإندونيسيا في قيادة العالم الإسلامي، وعن قدرتها على ذلك، وعن منافسيها، وما هي الشروط التي يجب توافرها لتكون إندونيسيا مهيأة لقيادة أمة الإسلام، والعبور بها نحو السلام في عالم يزداد عداء للمسلمين، ويتعاظم مع الوقت عدد المنخرطين في المنظمات الإرهابية حول العالم. أحد المشاركين في النقاش استبعد قدرة إندونيسيا على ذلك، لأن وجود الحرمين الشريفين في المملكة العربية السعودية يجعلها الأوفر حظاً والأقدر على ذلك. وهو مصيب على كل حال.
المسيرات والاحتجاجات التي شهدتها إندونيسيا الأيام الماضية وما نتج عنها من ضحايا هي مؤذنة بالخطر في أكبر دولة إسلامية. في الأعوام الأخيرة شهدت أكثر من دولة إسلامية في آسيا، ودول أخرى تعيش فيها أقليات مسلمة توترات وصدامات، صاحبها قلق من السلطات والأجهزة الأمنية، في ماليزيا، وفي المالديف. كما أن سنغافورة التي يعيش فيها قرابة 13% من المسلمين تشهد شيئاً من المخاوف، وتعيش قلقاً مكتوماً في بلد يباهي بصورته المثالية أمام العالم. الغريب أن الطموح نحو تطبيق أكثر لما يوصف ب«أحكام الشريعة الإسلامية» هو في تضاعف وازدياد بين مسلمي دول هذه المنطقة. فقد أعلن سلطان بروناي في نهاية العام 2015 عن خطوة، أثارت ردود فعل دولية، عن نيته العمل على تنفيذ أكثر صرامة لحدود الشريعة، ومعاقبة الشواذ، ومنع إعلان غير المسلمين الاحتفال بأعيادهم ومناسباتهم الدينية، إلا أن المراقبين والإعلام الدولي لم يلحظ أي تغير حقيقي يُذكر بعد هذا الإعلان مقارنة بسابق الحال.
إندونيسيا تعترف بست ديانات يدين بها مواطنوها الذين يتجاوز عددهم ثلاثمائة مليون، بجزرها المترامية الأطراف. ولكن آفة خطيرة تنخر في هذا المجتمع المسالم الذي تعرض خلال العقود الماضية لمحطات اختبار قاسية، مروراً بانفصال تيمور الشرقية المسيحية إلى تفجيرات بالي 2005، إلى تهديد السلم الاجتماعي والنسيج المتنوع في هذه الأمة التي يمكنها أن تقدم للعالم أروع نموذج للإسلام المعتدل. هذه الأمة تعرضت في العقود الأخيرة لغزو مخيف من السلفية المعاصرة التي بدأت تقرض من مساحة التسامح بين مسلمي هذا البلد ذي النزعة الصوفية المتسامحة. وهي مشكلة تعاظمت في الآونة الأخيرة، وأشار إليها الرئيس الأميركي باراك أوباما في حواره الطويل مع مجلة «إتلانتيك» حين استرجع ذكريات طفولته عن إندونيسيا المتسامحة، والتحول الكبير الذي طرأ عليها الآن مع صعود السلفية بكل أطيافها.
الآن يعيش هذا المجتمع إحدى المحطات المقلقة الناتجة عن الحساسية الشديدة التي أصبحت تحرك العامة في الشوارع. ومن غير المستبعد أن المسيرات والاحتجاجات ضد حاكم جاكرتا المسيحي والمطالبة بمحاكمته والإطاحة به قبل انتخابات فبراير 2017، هي لدوافع سياسية استغل فيها تصريح ملتبس للحاكم الذي أكد أن القرآن الكريم لا ينص على وجوب أن يكون حاكم جاكرتا مسلماً، وهذا صحيح فالقرآن الذي نزل بلغة العرب التي نعرفها ورضعنا حبها وعلومها ولغتها لا ينص على ذلك، ومع ذلك فالغضب في جاكرتا لا يزال متفجراً. وقد نالت شرارة هذا السخط أحد علماء الأزهر الذي زار إندونيسيا ليدلي بشهادته أمام القضاء والسلطات، ويبدو أن شهادة عالم كبير عربي اللسان لم تقابل بالرضى من قبل الرابطة، مما جعلهم يعلنون أن هذه الشهادة ليست إلا تدخلاً في الشؤون الداخلية لإندونيسيا!