يمكننا القول إن المجتمعات البشرية متفاوتة في استجابتها للتحولات الكبيرة. المجتمعات التي في طور التشكل تكون كالخامة، تسهل هندستها مقارنة بالمجتمعات المستقرة. ولكن المستقرة التي تتسم بالانفتاح والتقبل والتنوع وقد اعتادت في تجربتها التاريخية على التحولات والتكيف معها، وصهرتها المحن، هي أكثر قدرة من مجتمعات أخرى تتسم بالانغلاق والتحفظ، بل هي أصلب من غيرها على البقاء مع انسيابية في التحول. بعض المجتمعات يكون رسوخ الثقافة في أبنائها الذين رضعوها مع حليب أمهاتهم واضحاً وجلياً، ونفوذ هذه الثقافة في عقل وأسلوب تفكير كل وافد ومهاجر ومقيم واضحاً. أي إن ثمة مجتمعات تكون قابلية انصهار الوافد إليها فيها كبيرة، وأثر الجديد عليها وفيها يحتاج إلى عقود أحياناً. لهذا تكون الحروب سبباً يجعل المجتمع بعدها أكثر قابلية للتغيير، لأن كل شيء يكون هشاً، وكل المؤمنين بالقديم وقيمه يكونون قد تعرضوا لامتحان كبير زعزع ثقتهم بها.
تاريخياً نجد في مجتمعين عربيين قديمين استجابة متفاوتة لأفرادهما في تقبل التحولات الاجتماعية التي أتت في طمي الدعوات الإصلاحية الشاملة كما في العرب الأوائل، المكيين والمدنيين، في عصر الرسالة. كانت استجابة أهل مكة للتحولات العميقة بطيئة وقدرتهم على الممانعة أقوى. الزلزال الأكبر الذي واجهوه قبل أكثر من أربعين عاماً على دعوة الإسلام يتمثل في أصحاب الفيل، في مشروع أبرهة المسيحي لتدمير مكة وهدم الكعبة. إذاً كل شيء يعرفه أهل مكة كان معرضاً للزوال، حياتهم الرغيدة، وتجارتهم، ومنزلتهم التي يتمتعون بها من بين أحياء العرب، كلها غدت على كف عفريت. التحدي الثاني بعد ذلك بأربعة عقود بزغ من بين ظهرانيهم، من واحد من أبنائهم، عرفوه جيداً، بُعث بدين جديد، يبشرهم بأن يسودوا ليس العرب من دون غيرهم، بل سيظهرون به على العالمين، ولكن سادات مكة كان لهم تفكير مختلف، فهم قدَّروا أن تخليهم عن دين آبائهم سينعكس –حسب تقديرهم الضيق لحظتها لمصالحهم ولمكانتهم-على الجاه والسؤدد الذي يتمتعون به من بين أحياء العرب، موقنين أن تجارتهم ومداخيلهم الكبيرة والفاحشة من موارد العمرة والحج ستكون عرضة للزوال أو المشاركة. كان أهالي مكة قد خبروا من قبل، واستطاعوا حتى مع بدايات الدين الجديد أن يحتووا بعضاً من أبنائهم غريبي الأطوار، ولأن مكة في الأساس مجتمع مفتوح ويتقبل الجديد، ولها مجموعة من الأعراف والتقاليد الراسخة والأحلاف التي جعلت منها بيئة ترحب بالغرباء، وتحميهم، وتتفهم الاختلاف شريطة ألا يتسبب بزعزعة الثقة بقيم (الملأ) الذين كانت دار الندوة تحويهم وتمثل مجلسهم ومقر مناقشاتهم وقراراتهم.
يلخص الكاتب الإماراتي علي بن تميم المشكلة التي تواجهها بعض المجتمعات مع إرثها الثقيل في مقابلة جديدها الطارئ، بقوله «إن التاريخ العريق قد يكون أحياناً عبئاً على المجتمعات».
نلاحظ أن عرب الجزيرة الذين اعتنقوا الإسلام عن بكرة أبيهم كانوا بعد انتقالهم إلى الأراضي الجديدة مع الفتوحات أكثر قابلية للانصهار، بينما بقيت مكة والمدينة إلى حد كبير دون تغيير يذكر، إلا ما نقرؤه في كتب التاريخ من أنهما تحولتا إلى إحدى مدارس الفن العربي، والمترفون من أبنائهما منشغلون بالشعر والنسيب وقلة منهم أصبحوا محدثين وفقهاء، بينما التحق الطامحون في السؤدد والملك إلى العالم الجديد.
يمثل الرقم مئة في الثقافة العربية الكلاسيكية الفترة الزمنية التي تكون فيها المجتمعات مهيأة لتحول كبير، فهي فترة مناسبة لظهور مصلح كبير، وهي نفسها المدة الزمنية التي يمكننا أن لا نتخيل فيها أحداً ممن هو بيننا اليوم سيكون على ظهر البسيطة مع اكتمال قرن من الزمان، وهذا سيكون موضوع مقالة قادمة.