لتطورات التي تشهدها دولة الإمارات العربية المتحدة منذ سنوات في مجال التسامح ومكافحة التمييز والكراهية هي نجاح كبير وملهم، ولكنه نجاح مدعوم بالتنمية والرفاه والأمن والتعددية التي نراها واقعاً ملموساً على الأرض. تترجمه السياسات والتعليم والقانون الذي ينظم حياة الأفراد وعلاقة المواطنين والمقيمين بعضهم ببعض، جاء ذلك تتويجاً لعشرات السنين من الخطوات الواثقة ومواجهة التحديات في منطقة لا مثال يمكن فيها احتذاؤه، فالإمارات هي نموذج غير مسبوق في عالم عربي يغرق في الأحزان ويقتل بعضه بعضاً. ومع أن أي حديث عن الواقع البائس الذي نعيشه عربياً وإسلامياً هو كلام مكرر، فإنه علينا أن نتنبه لأننا في بقعة تشهد اندحاراً وغرقاً في المشاكل بينما تشهد البشرية أعظم خطواتها نحو المستقبل، وأكبر إنجازاتها في العلوم والاكتشافات. لسنا معزولين بل نحن نتابع لحظة بلحظة تفاصيل هذه القصة، ثم نأوي إلى مخادعنا ونندب حظنا ولحظتنا ونتفجع على حالنا ونخاصم أقدارنا، وفي النهار نكون شركاء إلا ما ندر في نسج المؤامرات ضد أنفسنا ونوجه الطعنات إلى نحورنا، ونرجم العالم والكبار والأشرار الذين جعلونا نخرب بيوتنا بأيدينا.
كان المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري يستشهد بعبارة جاءت في مقدمة ابن خلدون تصف حال بلاد الإسلام خاصة والعالم عموماً في القرن الرابع عشر الميلادي/ الثامن الهجري: «فكأن لسان الكون قد نادى في العالم بالانقباض والخمول فبادر بالإجابة». ولأنه عاش وشهد أحوال شمال أفريقيا ومصر والشام فقد اكتسب ابن خلدون خبرة عميقة وحكمة تحصلت له من الانتكاسات والنجاحات والقرب والبعد من الأمراء والملوك والطغاة، وعرف الجاه والإذلال، عرف الوزارة والقضاء، الوحدة والعزلة والاجتماع، وذاق طعم السيادة والمناصب الكبرى الشريفة واختبر الإبعاد، وتقلب في محاضن العلماء والفقهاء وكان واحداً منهم، وخبر ابن خلدون فتك الطاعون بالبشر والأحزان وفقدَ الأحبة والعائلة في طرفة عين ذات نهار.
في لحظة الانكماش التي وصفها ابن خلدون كانت أوروبا تتنفس للنهوض، حيث فصل جديد من الحضارة الإنسانية يولد في في إيطاليا، يشابه الحال التي وصفها ابن خلدون أوضاعاً مشابهة عرفتها إيطاليا بعد قرابة مئة وخمسين عاماً، كتب عنها نيكولاي ميكافيللي في فلورنسا والممالك الإيطالية في الثلث الأول من القرن السادس عشر، ولكنها كانت حقاً هي لحظة الولادة، لبدء خطواتها الأولى لتحول كوني أثمر ما نراه اليوم بعد قرابة خمسة قرون. الآن وفي هذه اللحظة اللتي توحي بأن شمس العرب ووجودهم وذَماء كرامتهم إلى زوال وضعة، تنبثق هذه الروح الخلاقة من الإمارات تحيي الأمل وتنبع بالحياة، وجاء إعلان الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حول إنشاء معهد للتسامح خطوة ضمن مشروع حضاري لم تكتمل قصته بعد.
في السنوات الأخيرة شهدنا دولاً تلاشت وملايين الناس هجرت، ومجتمعات أخرى في طور الولادة، وبعضاً منها يقاسي مخاضاً طويلاً ومؤلماً ومضجراً، فلا هو بالماضي الغابر ولا هو بالحاضر الواقع. وفي الخليج والعالم العربي غدونا قلقين ومشوشين جراء ما يجري في العالم من حولنا، لأننا صرنا مفعولاً بهم لا فاعلين، فنحن مرتبكون جداً نتيجة الزلازل التي تعصف بنا، خائفون من اهتزاز الأرض من تحتنا، فالمستقبل عند كثير منا ملبد بالغيوم، نواجه تعثراً وانتكاساً متعدد المستويات، وهشاشة في الدول والمجتمعات، ورعباً من مستقبل مشوباً بالفقر والفاقة وتكالب الأعداء. ولكن أسوأ ما يمكننا أن نفعله لأنفسنا هو أن نرمي العالم بالتآمر علينا ونحن نطعن نحورنا بحرابنا بإرادة منا وعزيمة وتنفيذ.
عسى أن تكون هذه النهضة في الإمارات نوراً يقتبسه العرب في حلكة الظلمة.