شهدت الأردن أمس الأحد حادثة مؤسفة باغتيال الكاتب الأردني ناهض حتر أمام محكمة العدل الأردنية بعمان إثر تلقيه ثلاث رصاصات، وسواء أظهرت التحقيقات أن الدوافع وراء قتله سياسية لموقفه المؤيد للاستقرار في سوريا ومحاربته للإرهاب، كما كان يشير إليه المرحوم قبل وفاته، أو كان الدافع ذريعة دينية بسبب نشره على الفيسبوك كاريكاتيراً ساخراً عن «داعش» وتصورها لجنّة البغدادي وحوره العين! التي استفزت من يعلنون براءتهم من الدعشنة، وكما هو معتاد في بلد ينشط فيه «الإخوان المسلمون» فقد كانت الحملة ضد حتر في الأساس من هذا التيار، حيث رفعت ضده ثمانون دعوى تطالب بمحاكماته، وبعض «الإخوان» طالب على تويتر بإعدامه. وكان حتر قد أكد في أول جلسة قضائية أن دافعه وراء نشره الكاريكاتير تنزيه الذات الإلهية عن تصور الدواعش.
وهذه الحادثة ومبرراتها لا يمكن البتة فصلها عن سياق ما عرفه العالم الإسلامي عبر تاريخه، ولكنها تضاعفت في العقود الأخيرة، بدءاً من فتوى الخميني بإهدار دم الكاتب البريطاني سلمان رشدي 1989 التي لا تزال السلطة في إيران متمسكة بها، واغتيال المفكر المصري فرج فودة 1992، التي شهد فيها الداعية الإسلامي الراحل محمد الغزالي أمام المحكمة لتبرير الجريمة، كما أنه لا يمكن فصلها أيضاً عن محاكمة وإعدام المفكر السوداني محمود محمد طه 1985، التي كان أحد المحرضين عليها أبو الحركة الإسلامية السودانية حسن الترابي، وقد تنصل الترابي من مسؤوليته عن إعدام طه لاحقاً في لقاءات تلفزيونية. وفي عام 1995 تعرض الروائي المصري نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال بقي يعاني إثرها حتى فارق الحياة.
وفي عام 2011 جاءت حادثة اغتيال حاكم البنجاب سلمان تيسير على يد أحد أفراد حرسه الخاص، بسبب مواقفه الليبرالية ومكافحته للإسلاميين، وفي مايو من هذا العام اغتيل الأكاديمي البنغلاديشي رضا صديقي في بلد يشهد منذ سنوات موجة من الهجمات الدموية على النشطاء الليبراليين، والأقليات الأخرى في البلاد. وباكستان وبنغلاديش هما البلدان اللذان حظيا في السنوات الأخيرة بأكبر نسبة من شهداء الفكر والفن.
إن مأساة الحلاج في القرن العاشر الميلادي، وإعدام السهروردي في القرن الثاني عشر قصتان حزينتان في تاريخ حضارتنا. وكانت المسيحية في القرون الوسطى موبوءة بهذا الجنون الذي ذهب ضحيته عشرات الألوف من العقول المستنيرة والمفكرين والمنشقين تحت تهم التجديف والهرطقة، بما لا يمكن البتة مقارنته بوقائع معدودة عرفها تاريخ الإسلام الذي كان أفضل حالاً بمراحل. ولكننا اليوم نواجه نحن المسلمين من دون غيرنا هذه الآفة على امتداد المعمورة.
هناك فرق بين محاكمة الفكر وإنهاك الخصوم بالمحاكمات والسعي لإعدامهم، وبين إقدام الأفراد على تنفيذ ما يرونه حكم الشريعة. في هذه الأخيرة بالذات يمكننا اعتبار ابن تيمية الحنبلي هو المرجع. ومع أن فقهاء المسلمين ومتكلميهم عبر العصور من كل المذاهب ناقشوا هذه المسائل وأحكامها وأفتوا فيها، فلا تكاد تجد فقيهاً ألف إلا وتناول مسألة كفر وقتل الساب أو المستهزئ، فإن العقود الأخيرة ومنذ صعود الإسلام السياسي والجهادية السلفية جعلت من فقه ابن تيمية المرجع في استهداف من يوصفون بالمستهزئين والشاتمين للذات الإلهية أو لمقام النبوة، وتنفيذ الحكم خارج القانون. ولهذا فإن المفارقة تبدو مدهشة حينما يترعرع هذا الفكر في بلد كالأردن، الفقه الشافعي هو مرجعيته الأولى، حيث قامت السلطات قبل عام تقريباً بمحاصرة كتب ابن تيمية ومنعها. ويمثل كتاب «الصارم المسلول في حكم شاتم الرسول» لابن تيمية دستور الاغتيالات المعاصرة التي تستهدف الكتاب والمفكرين والأدباء والفنانين.