في العام 2003 تعرفت إلى إمام وخطيب جامع في غرب الرياض، كان هذا الإمام قد اعتاد كل عام زيارة سوريا، ينشط أثناءها في المواعظ والدروس الدينية في قصور وبيوت كبار مسؤولي حزب «البعث» الحاكم. وحسب ما حكاه لي هذا الإمام فهو لم يكن الوحيد الذي وجد الأبواب مفتوحة له، وقتها كانت سوريا تعيش انفراجاً سياسياً واجتماعياً ونهضة ثقافية وفنية. لم تطل علاقتي بهذا الإمام الذي انقطعت عني أخباره في العام نفسه، بين الفينة والأخرى كنت أقع على اسمه معلِّقاً في صحيفة أو مشاركاً في قضية. في السنوات الأولى من الألفية عاشت الشام صحوة دينية بين جيل الشباب، من أبناء البعثيين النافذين، صحوة ذات منحى سني. والإناث كنَّ هن غالب جمهور صاحبي، وهن على الدوام هدف كل من يسعى إلى إحداث تغيير اجتماعي عميق في أي شريحة أو فئة اجتماعية.
بعد الاضطرابات والحروب الأهلية التي عاشها العالم العربي منذ العام 2011، لاحت أوهام الثورات للنشطاء والموتورين، فانزلق هذا الشعب المعتز بنفسه ضحية مخططات الكبار والتنظيمات الحركية التي آلت مطامحها إلى سحق المواطن السوري الذي فقد أمناً لم يعد موجوداً، وأضاع رغيفاً كان يسد جوعه، وكخيط من دخان تسرب السكن الذي يحنو عليه، والستر الذي كان سابغاً، وبعد أن كان السوري يستقبل السياح في بلده، عزيزاً في وطنه فخوراً بأنه مأوى الغريب والشريد والمهجّر، أصبحت سوريا مهوى حسرات وزفرات على شرف زال وبلد تقسَّم، ونبع دموع تُسح على عتبات المهاجر والملاجئ، كأكثر مأساة عرفتها البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
مع بدايات الحرب الأهلية في سوريا كنت أسأل أغلب من ألتقيهم من السوريين، أما الشباب منهم فكانوا في حماسة لا توصف لما يحدث، الكهول كانوا حذرين وجلين، حلاق سوري قال لي: سوف نخرج جثة الأسد الأب ونحاكمها، لن نترك علوياً حياً. منتصف العام 2014 كان سوري أعرفه من درعا قد قضى شهرين من القلق والرعب لأن والديه وزوجته وأولاده الثلاثة يعيشون في مسجد مهدم يمنُّ الناس عليهم باللقمة واللباس والفراش، وحين التقى عائلته أخيراً في تركيا توارت واحدة من ابنتيه عن ناظريه، وقضى أسابيع ثلاثة مفطور القلب كي يراهن باسمات يتناغين ويتسابقن على الألعاب شأن أترابهن. كان كل شيء جميل قد ذوى، كل الرواء قد جف ونضب، وتلك الملامح الملائكية قد تخشبت واستحالت ظلال أشباح. هذه قصة من أحد عشر مليون حكاية عن ذل بعد عز، وانكسار بعد كرامة.
السوريون الأصلاء وعوا أن الضجر الذي كانوا يلوكونه من واقع حالهم كان رفاهاً سُرق منهم كلمح بالبصر، وأن الخوف الذي كان يرعبهم كان سكينة تحفهم، وأن الحريات التي كان النشطاء يقدسونها ويتآمرون مع الشرق والغرب لأجلها، لم تكن إلا حبائل من الأكاذيب وآباراً من الأحزان وكهوفاً من الظلمة والدماء. معظم العوائل السنية التي هجرت أراضيها فراراً من «المجاهدين» و«الدواعش» من الرقة وغيرها وجدوا أخيراً السلام والأمان في مناطق يحكم سيطرتها علويو سوريا في الساحل. العلويون أنفسهم الذين ثار إسلاميو السنة ليزيلوهم عن الخريطة. سوريا التي بقيت أموية سنية في فقهائها وآدابها وفنونها. يروي البوطي لصديق لي قبل رحيله بشهور، أنه حين انكسر حافظ الأسد بعد الموت المفاجئ لوريثه باسل لم يجد وعائلته العزاء إلا في أوراد كتبها البوطي نفسه الذي كان فقيهاً سنياً كبيراً، ويا للدهشة فقد اغتيل هذا الفقيه بيد «المجاهدين» وبفتوى عالم سني آخر! سوريا ضاعت ولن تعود.