في الحلقة الأخيرة من مسلسل «الفرسائيون» يخاطب الملك الشمس (لويس الرابع عشر) أخاه إبّان الخلاف على بناء قصر فيرساي قائلاً «الموسيقى والرقص والموضة والفن. كل هذه الأشياء قادرة على تغيير الأمة من الداخل، لتؤثر في قلوب وعقول البشر، لتجلبهم لنا. لا يمكننا غزو العالم بأسره. لكن العالم بوسعنا جعله يتخيل أننا مركزه وفي يومٍ ما هذا ما سيحدث يا أخي. الأغنية التي أريد أن أعزفها في هذا القصر أريدها أن تبقى للأبد».
الذي تعيشه تركيا هو مسلسل تركي حزين ومثير وصادم، لكن سؤالاً مهماً يجب أن نسأله لأنفسنا نحن أبناء الخليج: هل عرف التاريخ الحديث للجزيرة العربية حاكماً انساق وراء شهوته العارمة للاستئثار بالحكم حتى فرّق بين البيت الواحد، وقسم المجتمع، وقال إن شطر المجتمع خونة، ومنع الصلاة عمن ثار عليه من شركائه ورفاق دربه؟ هل سبق أن عرفنا ملكاً أو رئيساً يبيع علينا «الوطنية» بتدمير كل ما بنيناه لكي يبقى في السلطة؟ ألا يجب علينا أن نستحضر هذه النعمة التي نرفل بها وتفتقدها الجمهوريات و«الديمقراطيات» التي لا تفتأ تعيّرنا وتنتقص منا؟!
كان في مسقط رأسي شيخ جليل من آل المهيلب قد بلغ الثمانين من العمر، إذا أعجبته قرعة في السوق، أو بقرة حلوب، أو فرخ نخلة، أو تيس من سلالة قوية، أو صادف شاباً يافعاً يتوقد ذكاء ويتدفق نشاطاً، قال «هذا وطن». كل شيء من أي شيء يروق له فهو «وطني»، كانت الوطنية عنده مرادفة للجودة الفائقة، يسبغها على الجماد والعتاد والحيوان والإنسان. توفي هذا الشيخ الناسك قبل قرابة عقدين. وكان بحق وطنياً رائعاً. اليوم يتساءل الكثيرون: كيف يمكننا أن نكون وطنيين، أن نعشق الأرض ونرأف بها، أن لا نكون أداة لأعداء الوطن، وألعوبة لمن يسعى لتدمير سلمنا الاجتماعي؟ التاريخ يمكنه أن يفي أحياناً بجزء من هذه المهمة.
إن المجتمع الذي يريد أن يقوّي العلاقة اللاحمة بين أبنائه وفئاته وقومياته وأعراقه، ويذودُ نفوسَ أبنائه عن التشوف إلى خارج سياجه، ويحقق لهم الاكتفاء الروحي والقيمي في حده الأدنى الذي يعيق استلابهم ثقافيًا لمصلحة تنظيمٍ أجنبي أو ثقافة سياسية أخرى، عليه أن يضع لأبنائه من تاريخهم ما يسد جوعهم إلى ما يلهمهم، عن البطولة، والذكاء، والشجاعة، والتحمّل، والانتصار، والتآمر، والتديّن، والتمرّد، والتجديد، والانعتاق. حينما ينجح مجتمع ما في استلهام وتشرُّب هذه المثل، يمكنه أن يكتفي أولاً، ويفيض ثانيًا، ولن يشعر بهوّة كبيرة تجذبه ليكون تابعًا إذا تعامل مع أمة لها تجربة. إن أمة التجربة الكبيرة التي لا تُدوّن أو لا يُقرأ ديوانها، ولا يتم التذكير به، تشعر بالضآلة إزاء أي أمة دوّنت تجربتها.
ما شهدناه في الأيام الماضية منذ انقلاب تركيا يكاد يكون تعبيراً صادقاً عن كيف نجح الأتراك أن يكونوا مركز الاهتمام ويستأثروا بسوالف المجالس، ويكونوا عاملاً في الخلاف وربما القطيعة بين الأحباب، والأدهى كيف أن العامة وجدوا أنفسهم متعصبين لحزبٍ لا ناقة لهم فيه ولا جمل. ولو عادوا إلى التاريخ إلى حكايات أجدادهم ربما لعرفوا لمن كانت المشانق تُقام، ولو عادوا إلى شهور مضت لعرفوا مَن كان يغذّي «داعش» ويدعمه ويسهل تنقلات مقاتليه، ومَن كان سبب الأحزان التي تعصر قلب أبناء الجيران، وبنت العم الثكلى، وأبناء الوطن وحُماته. وقد أحسن الكاتب السعودي عبدالرحمن الراشد حينما ذكّرنا بكل أولئك الذين استأثروا يوماً بعقول أبنائنا مؤكداً أنهم كلهم مرّوا من هنا.