في نهاية السبعينيات أصدر فقيه خليجي فتوى بكفر الرئيس التونسي بورقيبة، أعيد نشرها في السنوات الأخيرة ضمن مجموعة فتاواه التي جاوزت عشرين مجلداً، ولكن بعد حذف اسم بورقيبة، الذي كان وقتها قد رحل عن دنيانا، من دون أن يلقي بالاً لتلك الفتوى التي استهجنها وقت نشرها. غير أن هذا المفتي اضطر إلى حذف اسم بورقيبة لسببين أحدهما سياسي، والآخر –حسب فهمي- عدم العلم بخاتمة مَن أُصدرت في حقه الفتوى. والعرف الذي سار عليه فقهاء الإسلام منذ القرون المتقدمة، أن الفتوى تكون تراثاً وتاريخاً، حتى وإن تراجع مَن رأى في نفسه الغيّ والضلال ممن صدرت في حقه الفتوى، وهذا التوثيق والحفاظ على أمانة التاريخ هو ما حفظ لنا تراثاً ضخماً شائكاً وملتبساً، ولكنه قابل للدراسة والفهم.
كان بورقيبة مؤمناً ومعتزاً بإسلامه، ولكنه كان طوال عقود حكم فيها تونس يعلن رؤيته ويبني عليها سياساته في إدارة البلاد، وفرضِ القوانين التي تتلاءم مع هذه العقيدة. يؤكد المفكر التونسي أستاذ كرسي اليونسكو لمقارنة الأديان محمد الحداد أن بورقيبة وخلفه الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي كانا على الدوام يتفاديان الإشارة إلى علمانية الدولة. وحسب الحداد فإن ما كان يفرضه بورقيبة على مواطنيه كان عن اجتهاد نابع من قناعة عميقة آمن بها الزعيم الذي كانت وسائل إعلامه تصفه بـ«المجاهد الأكبر».
وفي بداية الثمانينيات صدرت فتوى شهيرة أخرى بكفر الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، بعد أن أفصح عن أفكاره الجريئة الغريبة التي ضمَّن بعضاً منها في «الكتاب الأخضر»، وعلى الرغم من أن القذافي كان يجمجم دائماً بأفكار مشوشة، غير واضحة أحياناً ممزوجة برؤاه السياسية، فإنه كان مغرماً بالتفاسير الباطنية، وبالعرافة، والقوة الباطنية، وبالسحر، وكان أحياناً يفصح عن أمانيه بعودة حكم «العُبيديين».. لا ريب أن نفسه كانت معلقة بتلك الحقبة مشغوفة بالأسرار والغموض الذي كان يلفّ حكم السلالة العبيدية التي حكمت مصر وأجزاء من الشام وشمال أفريقيا قرابة مئتي سنة.
ذكاء القذافي وغرامه الكبير بقراءة التاريخ جعل الشاعر السعودي الراحل غازي القصيبي في كتابه «الوزير المرافق»، يتوقف عنده مشيراً إلى أنه شخصية محيرة ولكنه لم يكن غبياً على الإطلاق. لقد كان محل تندّر وسخرية من الشرق والغرب، ولكن بقاءه أكثر من أربعين سنة حاكماً مطلقاً في بلد قبلي مثل ليبيا، ورعايته لتنظيمات إرهابية، وأعمال إجرامية، وبناءه جهاز استخبارات مرعباً كان يصفي أعداءه على بُعد آلاف الأميال عن ليبيا، هو الجواب. فقد كان يضمر خلف ذلك القناع دهاءً معقداً ونفساً معتمة الزوايا قاتمة الأبعاد جعلت الجميع يسعون إلى اجتناب شره، لقد ترك مقتلُه ليبيا من بعده خراباً وبئراً من الدموع والأحزان. وكانت خاتمة هذا الإنسان أليمة موجعة صادمة، بقدر ما زرع من جراح، ورسّخ من جهل، وبنى من صروح التخلف.
يكاد يكون هذان الزعيمان المغاربيان هما الأكثر إثارة خلال العقود الخمسة الماضية، وقد سببا استياء الفقهاء إلى حد دفع البعض منهم إلى إصدار فتوى تكفير بحقهما. أما تونس فقد تركها بورقيبة وهي تمتاز من بين دول العالم العربي بنسبة عالية من التعليم والثقافة والانفتاح، وكانت ثورة التوانسة في ديسمبر عام 2010، هي الأكثر سلمية، ونهايتها الأقل عذاباً، وأوفر الاضطرابات نعومة من بين ما جاء إثرها من اضطرابات وفوضى في أكثر من بلد عربي، ولكن تونس أيضاً تضخ إلى العالم العدد الأكبر من مقاتلي «داعش» وأكثرهم شراسة، وكان آخر مفاجآتها أن واحداً من أبنائها هو منفذ مجزرة «نيس» الأكثر بشاعة في تاريخ فرنسا.