في بداية ثلاثينيات القرن العشرين ومع صعود النازية لجأت الفيلسوفة الألمانية «حنة أرندت» إلى فرنسا ثم الولايات المتحدة الأميركية، وكيهودية علمانية عانت من الوضع اليهودي، كانت هذه المسألة تثار في أي نقاش معها، وفي مقابلة، قبل وفاتها، على قناة ألمانية، أشارت إلى الانتقاد الذي يوجّه إليها من قبل الصهيونية. ولأنها كانت قاسية حينما أشارت بمرارة إلى أن اليهود هم سبب المعاناة التي مروا بها عبر التاريخ، فقد اضطرت مراراً لشرح ما قالته. تقول حنة في لفتة مهمة: «إذا تعرض الإنسان لهجوم لكونه يهودياً أو منتميا أو متحدرا من طائفة أو مذهب أو عرق، فعليه أن يواجه هذا الهجوم بكونه واحداً من هذه الفئة، لا لكونه فرداً ينتمي إلى وطن أشمل ودائرة أوسع». ويبدو أن حنة هدفت من ذلك إلى أن الاعتراف بك مختلفا من قبل الآخرين هو أساس التعايش، أي الوحدة من خلال التنوع.
الآن البشرية تنساق ضمن مشروع من الاندماج والتقارب نحو تشكيل ثقافة كونية متشابهة ومزيلة للحواجز الصلبة، عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، روح تتغذى من أنماط وسلوكيات متقاربة، ولكن بألوان طيف متعددة، إلا أن الملفت أن صحوة الفئات الاجتماعية والأقليات أصبحت اللحظة هذه أكثر حساسية وجدية من أي وقت مضى. فالفقر وشح الموارد أو توهم ذلك، والحسد من الأغيار المشوب بالخوف منهم، كلها عوامل هدم تنقض أي غزل يسعى لتخفيف الكراهية وإزالة الحواجز بين الأمم والثقافات.
في حومة هذا التحول الضخم نعيش حقبة أليمة من التجريف للأقليات الدينية والمذهبية، بتعرضها للأعمال الإرهابية، وتهجير الملايين، واقتلاعهم من جذورهم، واستهداف أماكن العبادة، واختطاف الأبناء، أو استعباد الإناث وبيعهن في سوق النخاسة. والوضع الحالي مقارب إلى حد كبير لما شهدته المنطقة قبل مئة عام. المحرك الرئيس لهذه التطورات هو مطالب ومطامح وأحلام الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية وصراعاتها وأحقاد التاريخ التي أُلجمت مئات السنين، وهي اليوم مطلقة العقال، كما لم يسبق من قبل في الأزمنة الغابرة. في ظل هذا وياللمفارقة، تتنفس فئات اجتماعية وجندرية مطالبة بالاعتراف، متخذة من وسائل التواصل ومن الإعلام منابر لها، ومن المواثيق الأممية وحقوق الإنسان شرعة تستند إليها.
كان التشجيع على الهجرة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، تجسيداً لمسعى نبيل ورشيد من زعماء القارة إلى تخفيف النعرات القومية التي آلت إلى حربين كونيتين وعشرات الملايين من الضحايا، وتضافر الفلاسفة والمفكرون والإعلام، والفنون إلى حد كبير في الدفع نحو هذه الروح التي عاشتها القارة قرابة السبعين عاماً، ومنها ولد الاتحاد الأوروبي الذي يبدو اليوم في طريقه إلى التفسخ. ومع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في ظل صعود اليمين المتطرف والكراهية للأجانب بمن فيهم المسلمون، تدخل أوروبا حقبة مخيفة يظللها شبح كئيب مذكراً بالمناخ الذي ساد هذه البقعة قبل قرن.
كان «ألبرت كان» الثري الفرنسي قد دشن مشروعاً عالمياً في عام 1912، لرصد وتصوير كل الأزياء والألبسة والعادات الاجتماعية، التي كانت تمثل التنوع المبهر في الأديان والأعراق، التي كانت على وشك الزوال إلى الأبد، وفي أعوام الحرب العالمية الأولى كانت خارطة أوروبا والشرق الأوسط يعاد تشكيلها، ويتخلق عالم جديد، كانت حصيلة هذا المشروع الجبار سبعين ألف صورة ملونة ومئات الساعات من الأفلام، التقطت في منطقة البلقان والشرق الأوسط وفي وسط آسيا، واستمر هذا المشروع حتى 1929. شاهدوا هذه السلسلة الأخاذة بأجزائها الخمسة بعنوان «عالم ألبرت كان المدهش».