الخلاف الأخير بين الأمين العام للأمم المتحدة وبين السعودية والتحالف العربي يوضح أن الوضع المعقد في تداخل المصالح وتضارب القوى والنفوذ وما يمكن تسميته بالأساليب الناعمة للإخضاع والكسر هي ما يسود عالم السياسة ويحكم العلاقات الدولية اللحظة هذه، وهي تؤكد أنه كما في عالم الاجتماع فالسياسة على غراره: اليد العليا كما هي خير وأحب إلى الله والبشر من اليد السفلى، فهي أيضاً كذلك في عالم الواقع وفي السياسة، الموازنة بين المكاسب والخسائر هي الضابط لإيقاع الممكن والمتصور، بين المثل وبين الوقائع على الأرض، بين اليوتوبيا والواقع المعيش والقوى التي تحكمه، بين المبادئ وبين التوازنات التي يمكن العمل من خلالها ومراعاتها، بين الشعارات وبين الاحتياجات الحقيقية للمجتمعات.
منذ أن دونت البشرية تاريخ ساستها والممالك والإمبراطوريات وصراعات القادة والدول على الهيمنة، وهي توثق السيرة الذاتية للقوة، لأدوات تغيير التاريخ، والتاريخ في كل تفصيل من سرديته الكبرى لقصة السياسة والحكم، يؤكد أن الخير والشر والألم واللذة والخسارة والربح كانت على الدوام مختلطة متشابكة، فبقدر ما تنعم به الدول من خير ومن موارد ومن قوة ومن علوٍّ ومن تأثير روحي وثقافي، وما تفيض به على جيرانها وحلفائها وعلى المجتمعات الجائعة المعدمة من مواردها وثرواتها، أو بما تسهم به من استقرار وتماسك لكيانات هشة تدور في فلكها يكون تأثيرها في عالم السياسة، وتكثر أخطاؤها كما تتراكم إنجازاتها.
قرابة عشرين منظمة حقوقية انتقدت بقسوة تصريح الأمين العام حول مبررات حذف التحالف من القائمة، حيث شككت في صدقية المنظمة وأكدت على فقدها احترامها، إلا أن هذه المنظمات لا يمكنها أن تعي أن أكثر من مليون يمني يعيشون في السعودية ويعولون من خلال ما يجنونه من دخل ملايين البطون الجائعة في اليمن، فضلاً عن كل ما قدمته السعودية لعشرات السنين لليمن، وما قدمه التحالف خلال أكثر من عام من مساعدات للمتضررين من الحرب. الحروب شر قدر تنساق إليه أكثر الدول حرصاً على السلام والاستقرار في محيطها، ولكن التغاضي أيضاً عن الحاجات الحقيقية للمجتمعات هو مشكلة مزمنة يعاني منها كثير من الناشطين الذين يمكنهم وهم في مكاتبهم أن يبيعوا الأوهام لمجتمعات بائسة لا تجد ما يسد رمقها.
الأمم المتحدة ليست «منظمة إرهابية» كما غرد بذلك ناشطون خليجيون عقب نشر مسودة تقرير الأمم المتحدة، فهي أفضل ما أمكن للبشرية أن تبلغه من نضج، ولكنها أيضاً تكثيف لما يمكن أن تفعله القوة والنفوذ والضعف والهشاشة والتحالفات والتفاهمات والمصالح والصفقات، والأيديولوجيا أحياناً. هي فكرة نبيلة نبغت في عقل «إيمانويل كانت» وهو فيلسوف ألماني كبير من القرن الثامن عشر، ثم اختمرت في القرن العشرين في عقول زعماء أرهقتهم الحروب وأقلقتهم الصراعات والمجازر والمآسي التي عاشتها أوروبا عبر قرون.
ربما يكمن الخطر الأكبر فينا نحن هنا، إذا ساقتنا انفعالاتنا وضللنا كبرياؤنا لأن نساوي بين منظمة تأسست لتكون طاولة التفاهم والتقارب وتخفيف الصراعات والآلام والسلام بين الأنام، وبين منظمات إرهابية شريرة. علينا أن نقلق من هذه الدعوات التي تتنفس بين ظهرانينا، في منطقة هشة قابلة للغرق في أوحال الدماء والتكفير والقتل باسم الله، فالدرس الكبير الذي نستفيده من تجربتنا القاسية مع بان كي مون هي أن مستقبلنا وأبناءنا هو في انخراط أكثر ووجود أكبر وشراكة أوسع ومصالح أكبر مع الأمم المتحدة التي على الرغم من مشاكلها المزمنة، فإنها خلاصة حكمة الإنسانية وأروع معالمنا التي يمكننا أن نفاخر بها على مر العصور.