في الفترة التي كان الملك عبدالعزيز يهيئ شعبه لإعلان المملكة العربية السعودية، كانت أمامه حزمة من المشاكل التي تحتاج إلى أن تحل وتحسم، معظمها متعلق بمرحلة التأسيس، كان سعيه إلى إقناع آلاف من مواطنيه الذين امتلأوا قناعة بأن «الجهاد» تحت راية المؤسس ينتهي عند حدود دولية مرسومة هو أكثر التحديات التي واجهها خطورة، وقد وظف المؤسس كل ما يمكنه من نفوذ العلماء الذين حسموا أمرهم مبكراً بالوقوف معه، ليتولوا إقناع بعض المترددين من زملائهم، أو بعض المشككين، وخصوصاً أولئك الذين يحظون بنفوذ اجتماعي وقبول واحترام من الملك الذي كان يومها معروفاً بين رعيته بـ«الإمام»، أو «السلطان». ويحكي خير الدين الزركلي في كتابه «شبه الجزيرة العربية»، أن الملك عبدالعزيز بعد وفاة الشيخ عبدالله أو محمد بن عبداللطيف جمع بقية العلماء فور دفنه وقال لهم: «أنتم اليوم فوق رأسي، تمسكوا جيداً، لأنني إذا هززته وسقط واحد منكم لن يعود إلى مكانه»، وبقيت فئة أخرى تمردت ومالت إلى إعلان الرفض وأيدت المتمردين الذين ظنوا أن بإمكانهم خوض الحروب التوسعية إلى ما لا نهاية.
غالب المطاوعة الذين حرضوا ضد السلطان وولي الأمر لاذوا بالفرار فور هزيمة الإخوان البدو في السبلة، احتاج بعض منهم إلى عام أو أكثر حتى عفى عنهم الملك بعد شفاعات ورسائل استرحام، منهم الشيخ عبدالعزيز بن مرشد وأبوحبيب الشثري، كما حكى لنا عام 1988 وبعض منهم حسموا موقفهم مع السلطان عبدالعزيز قبل ساعات من الصدام وسحق التمرد. هؤلاء لم يرفعوا السلاح ولم يرتكبوا جرائم القتل والنهب في تلك الشهور العصيبة التي واجهتها البلاد، اكتفوا بالوسوسة والتحريش. أما من تورطوا في الانضمام إلى المتمردين ورفعوا السلاح فإما هلكوا أثناء المعركة، وإما لاذوا بالفرار فور انكسارهم. ومن لم يتلطخ بالدماء وأعلن توبته بعد الفرار فقد عفي عنه.
آخرون لحقتُ عليهم في آخر حياتهم وأنا في العشرينات من عمري، لاذوا بالصمت وانكفأوا على أنفسهم، واستمروا عقوداً من السنين ينفّسون عن مواقفهم إذا أمنوا جليسهم، ووثقوا به. هذه الفئة المغاضبة تركت لحالها، وكانت أحزانها و«أحقادها» على المؤسس، من العوامل التي تسببت ببزوغ فكرة تكفير الحكام وكانت ملهمة لأولئك الذين احتلوا المسجد الحرام في اليوم الأول من القرن الخامس عشر الهجري نوفمبر 1979. وقد رأى المؤسس بعد السبلة 1929 بسنوات قليلة أن إدماج من تبقى من متمردي السبلة أو أبنائهم في جيش نظامي يراعي إلى حد كبير ثقافتهم وأوضاعهم الاجتماعية ويحفظهم من الضياع، ويرسخ ولاءهم، هو أفضل الطرق لامتصاص أي تطرف أو حماسة دينية قد تفضي إلى الإضرار وضرب الاستقرار مستقبلاً.
كان كل ذلك يحدث في الوقت نفسه الذي كانت الدولة فيه ترسخ مؤسساتها وتجري إصلاحاتها، وتنتقل إلى دولة حديثة. وإلى حد كبير نجحت الدولة في هذه السياسة التي راعت امتصاص سخائم النفوس، وإدماجهم في مؤسسات الدولة، ونزع مخالبهم وتدجينهم، وصرف الرواتب لهم وضمان الحياة الكريمة، كما أبقت على قسم من مؤسستها العسكرية على مسمى يداعب مشاعرهم هو «المجاهدين». كانت مهامهم غالباً تتلخص في حماية المواقع والمؤسسات، والمساهمة في مكافحة الشغب والتمرد الأمني الذي أثبتوا فيه ولاء منقطع النظير للملك وللوطن، وقد أسهموا على مر عقود في سحق اضطرابات مسلحة ومظاهر تمرد شهدتها المملكة. اليوم أبناء هؤلاء هم من يفدي الوطن ويذود عن حدود بلاده التي أصبحت اليوم إحدى أكثر الدول استقراراً وقوة وتأثيراً في السياسة الدولية.