يعيش العالم على وقع طبول الحروب، والفتن، والصراعات الأهلية، والأعمال الإرهابية، التي أثمرت اليتم والفقر والتهجير والتشرد والآلام العميقة التي يصعب التعافي منها، وأبعدها غوراً هو الوجه الثقافي والاجتماعي الذي تثمره أعمال الإجرام التي تتذرع بالدين، وما تسببه من عنصرية وتمييز ضد إثنيات ومعتنقي أديان ومذاهب، وأبناء ثقافات أو مجتمعات تُصب عليها اللعنات، وتحمّل كل شرور العالم.
ولأن الحروب شبه قدر لا مفر للإنسانية منه، فإننا نشهد أيضاً نهاياتها وفصولاً جديدة أخرى لها، فكل يوم نشهد تهدئة أو تصالحا وسلاماً، توقف نزف الحروب، ليتمكن المعذبون الذين كانوا وقودها من لملمة الجراح، وإعادة الإعمار، وتخفيف المآسي، وبدء حياة جديدة. وتاريخ البشر هو آلاف السنين من الإعمار والدمار، والنهضة والسقوط، والحضارة والوحشية، والمعارف والتسامح والعلوم والحكمة، وأيضاً الجاهلية والظلام والتعصب. وأبناء آدم عبر أحقاب التاريخ امتحنوا أنفسهم وأهواءهم وميولهم وأذواقهم، وجعلوا منها فنوناً ومعارف وآداباً وعلوماً، وبلغوا ذروة العظمة حين أخضعوا خبايا نفوسهم ونزواتهم للدراسة والتحليل، وبنوا عليها فلسفات ومناهج للتربية، ولم يفعل ذلك إلا الإنسان كما يبدو.
درس البشر حتى دوافع وأسباب نفرتنا من أشياء وامتعاضنا من أخرى، لمجرد رؤيتها أو ما نحن مضطرون إلى اتخاذ موقف إزاءها سلباً أو إيجاباً، كيف نهيم بالشيء ونعادي آخر، وكيف نخدع أنفسنا ونتظاهر، حيث كل ما يحيط بنا يدفعنا نحو إعلان قبولنا أو رفضنا عبر ترويض النفس على محبتها أو ادعاء الغبطة بها، أو بالتظاهر بالنفرة منها واستبشاعها. وما أكثر ما قمنا باتخاذ مواقف نعلنها للملأ هي في الحقيقة أكثر تشدداً مما يقبع في دواخلنا التي تحاول التواؤم بين المعلن والمبطن. إن السؤال ومواجهة النتائج البشعة لمعتقداتنا وسلوكياتنا ورؤيتنا للآخرين هو حديث عن احترامنا للعقل أعظم الهِبات التي ننعم بها، ولن نكون أهلاً لهذه النعمة إذا أخفقنا في الحفاظ على هذه الأمانة، بعد أن أخفقنا في استثمار منافع ما وهبنا الله إياه من المعرفة والحكمة أحوج ما كنا إليها. ولهذا نحن نرقب كل يوم كيف تواجه أوروبا مهد الحضارة الحديثة، أخطاءها، وكيف تراجع ذاتها وتحاسب نفسها، وتعيش صراعها بين قيمها العظيمة وبين مخاوفها ونزوات المتطرفين فيها، في ظل شبه تبلُّد من قبل الواقفين ببابها وعلى حدودها الذين يرون أنفسهم معفيين من السؤال والتفكير ومصارحة الذات، وليس على العالم إلا أن يهب إلى إطعامهم وإيوائهم.
إن كثيراً من الحروب والفواجع والدمار الذي عاشته البشرية ولا تزال، كان يمكن ألا يقع لو أننا منحنا أنفسنا ساعات أو أياماً من التفكير، أو تنازلنا قليلاً، وقدَعنا جماح نفوسنا نحو المجد الزائف والأنفة المضللة. صحيح أنه مما يجعلنا بشراً أننا محتاجون إلى سخونة المشاعر وحرارتها، وأن نرتكب الأخطاء والحماقات، فبهذا العته الذي يتجسدنا نحب ونعشق ونقاتل بكل بسالة، وندافع عن الوطن، ونهلك أرواحنا فدى لعيون من أحببناه. ولكن ما أكثر الخيبة حين تكون ثمار كل ما سعينا من أجله وتجشمنا له القطيعة والضغوط وتشويه السمعة وخسران الثروات وفلذات الأكباد، حين يكون مآله فتاتاً لا يسمن ولا يغني، مشوباً بالدموع والأحزان، وأحقاد الغد تطارد أجيالنا لعقود من السنين.