أشرت في مقالتي السابقة إلى أن علماء الدين السعوديين مروا بتحولات لعقود تلت خمسينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت ذروة مشاريع التحديث وإنشاء الوزارات وأجهزة الدولة، وترسيخ القانون، ووضع الأنظمة، وأن تأثيرات هذه التحولات لا تزال غائبة في الدراسات التي تناولت المؤسسة الدينية وعلماء الحنابلة الوهابيين في الدولة السعودية الثالثة أي بعد قيام المملكة. فقد تعرضت الوهابية التقليدية للانكماش لعدم قدرتها على تلبية احتياجات الدولة، والتكيف معها، كانت حقبة الفتوح والخلافات الدينية والصراع مع المذاهب والعقائد الإسلامية المختلفة التي يعدها الوهابيون ضالة ومنحرفة أو ذات عقائد كفرية لا تزال تحكم عقلياتهم، ولم يتمكن من الانسلاخ من قبضتهم إلا قلة قليلة من الفقهاء من أبنائهم الذين تأسسوا في حلق المساجد ثم التحق كثير منهم بكليات الشريعة، وساعدتهم شجاعتهم في أن يحظوا بثقة الملوك لتولي مناصب عليا في مؤسسات حساسة اجتماعياً ودينياً كانت تحتاج أن يكون على رأسها فقيه يمكنه التعاطي مع جهتين، مع صاحب القرار ولديه الاستعداد للتكيف والتحول السلس، وعنده أيضاً الحكمة الكافية للتعاطي مع المؤسسة الدينية بشقيها الأكثر قوة: المفتون والقضاة الشرعيون، إلى جمهور كبير من المطوِعة والأئمة والمتدينين النشطين.
وكان لذلك التحول الخطير الذي سمح بتسلل فكر «الإخوان» في بيت الوهابيين، تأثير مفجع سياسياً ومحلياً ودولياً فقس بعد عقدين. وفي الأسبوع الماضي أصدر قاض سعودي كتاباً عن كليات القانون في الجامعات السعودية، مؤكداً أن تدريسه كفر وردة عن الإسلام. وقدم للكتاب الدكتور صالح الفوزان وهو أحد أكبر علماء السعودية اليوم، له برامج وفتاوى تبث على القنوات الرسمية، كما أنه أكثرهم نفوذاً ويكاد يمثل من بين زملائه في هيئة كبار العلماء الفقيه الأكثر عداءً للحزبية الإسلامية و«الإخوان المسلمين». كما أن الفوزان لعقود من السنين -ولا يزال- كان ضمن أعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء وهي الأكثر نفوذاً وتأثيراً مجتمعياً، لأنها تتولى بشكل شبه يومي التعاطي مع تساؤلات المستفتين عبر البرامج الإذاعية أو عبر الإجابات المكتوبة للسائلين من داخل المملكة وخارجها. أي إن الشيخ الفوزان هو النموذج المثالي للفقيه الوهابي الذي يحظى بالاحترام شعبياً وسياسياً، كما أنه لا يمكن وصفه البتة بأنه ملوث بفكر «الإخوان»، وولاؤه للوطن وولاة الأمر فوق الشبهات. ومع أنه كان واحداً من العلماء الكبار الذين تحفظوا على مشروع توسعة المسعى إبان حكم المرحوم الملك عبدالله، إلا أنه كان محل الاحترام والتقدير، فهو إضافة إلى تقواه وزهده وبساطة عيشه وبعده عن الشبهات المالية التي تلطخ بها بعض من زملائه، مأمون ثقة ولا يمكن تفسير تحفظه على أنه كان نابعاً من أجندة سياسية.
والمفارقة أن الشيخ الفوزان كان ولا يزال أحد أكثر العلماء السعوديين الذين تستند وسائل الإعلام السعودية والخليجية إلى أقوالهم وفتاواهم في التحذير من التنظيمات الدينية ذات الأجندة السياسية وعلى رأسهم «الإخوان المسلمون». وفي تقرير تلفزيون «إم بي سي» الجمعة الماضية حول المحرضين على «الجهاد» في سوريا والعراق، الذين وصفتهم بأنهم دعاة شق صف الأمة ودعاة الفوضى كان الفوزان هو العالم الأكثر ثقلاً لوضعه في مواجهتهم. وهذا المثال لعالم دين سعودي له مكانة كبيرة وهو في الآن نفسه يدعم بحثاً قائماً على تكفير كليات القانون واعتبارها ردة، ويدافع عن استمرار الرق والسبي متى ما وجد «الجهاد الشرعي»، هو ما يضاعف المسؤولية على صانع القرار السعودي لإدراك مكمن الخطر الحقيقي، وهو يعني أن مواجهة الفكر الإرهابي وتأسيس تحالف فكري ضد الإرهاب، ومنابع التطرف، وكشف مخططات «الإخوان المسلمين» الإجرامية، لا يمكن البتة فصله عن إصلاح حقيقي داخل البيت الوهابي الذي يمثل الفوزان أكبر علمائه الأحياء.