كما هو متوقع فإن الإرهاب الذي ضرب بلجيكا في الأسبوع الماضي فتح أبواب الجحيم على السعودية وعلى الوهابيين بمستوى تجاوز ما أثارته وسائل الإعلام بعد أحداث باريس، وفي الشهور الأخيرة يسعى باحثون سعوديون ومثقفون لعقد جلسات نقاش وندوات حول إعادة تفسير الوهابية، أو تجديدها. الحديث عن الوهابيين غالباً هو حديث عن مذهب السلف.
عند الحديث عن المذاهب الدينية والطوائف والديانات، فإنه لا يمكن الفصل بين التأويل أي التفسير الذي تُبنى عليه الممارسة والتطبيق العملي والسلوكيات النابعة من دوافع دينية، وبين التعاليم الأولى الأساسية فترة التكوين التي تكون معرفتها فقط من اختصاص الباحثين والعلماء المعنيين بتاريخ تطور الديانات والمذاهب. فالحديث عن الإسلام اليوم لا يمكن فصله عن تأويل المسلمين له، وهذا الإسلام الذي يعبر عن نفسه عبر أتباعه، أو عبر جماعات لها تفسير خاص ومنهجي عقدي، سيكون حصراً غالباً بمن لهم التأثير الأكثر في التحول الكبير الذي يعيشه العالم العربي وفي أوروبا اليوم. لهذا تحظى السلفية اليوم بالاهتمام الأكبر في وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث، والنقاش اليوم أصبح منصباً على السلفية الفاعلة القائمة والمؤثرة، أي السلفية الحركية الجهادية وليس سلفية القدامى من الأئمة الذين كانوا أحلاس بيوتهم، أو كانوا عاكفين على رواية الحديث وحفظ السنة وعلومها. إن مسؤولية السلفية التي ترى اليوم أنها ضحية للتشويه والاختطاف هي المواجهة الشرسة مع ذاتها، ويمكننا قول الشيء نفسه عن الوهابية.
إن ما لا يمكن أن يتوافق مع التاريخ والخبرة السياسية والدينية هو أننا نحن السعوديين اليوم أكثر قلقاً على السلفية والسلف منا على مستقبل الوهابية. صحيح أن اللمز بالوهابية لم يكن محبباً عند بعض العلماء، وأن كراهية المذاهب الفقهية السنية والطرق الصوفية للوهابيين ليس ناتجاً عن اختلافهم، وإنما عن الحروب التوسعية التي خاضوها كانت بين مد وجزر، إلى حين قيام المملكة، إلا أن المتقدمين لم يكونوا يجدون في وصفهم بالوهابيين غضاضة. لقد كانوا مدركين تماماً أن فكرهم الديني بعقائده وفقهه وسلوكه السياسي كان مختلفاً. لقد أسهم الوهابيون منذ القرن الثامن عشر في إعادة تفسير الإسلام السني، وأحدثوا تغييراً عميقاً في عقائده، وانتخبوا منها وأضافوا إليها وأعادوا تفسير بعضها حتى أصبحوا شبه مذهب مستقل، ولكن نجاحهم الأكبر -إن أمكن هذا الوصف- في أنهم عجنوا تعاليمهم بمذهب السلف، وغدت هذه سمة لهم إلى الأبد، وأصبح غالب حركات التجديد والتحرر الوطني منوطة بإلهام الوهابية. ومنذ ثلاثينيات القرن العشرين أصبحت السعودية هي زعيمة العالم السني وليس فقط للحنابلة السلف، إلا أن التاريخ يقول إن الوهابية التي كانت تعيد تشكيل نفسها عبر ثلاثة قرون أثبتت أنها كانت على الدوام قادرة على أن تتجاوز المفهوم الضيق للسلفية، وهذا سر اختلافها، ولكن ما حدث منذ خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم غائب عن الدارسين، فبعد قيام الدولة وتقليم أظفارالوهابية الدينية ركن حراسها إلى الخمول وانكفأت، وأصبح علماؤها يمثلون أزمة ومصدر حرج بعدم القدرة على الانسجام مع التحول الكبير الذي كانت الدولة والمجتمع يمران به، مما جعلهم لقمة سائغة للحركية الإسلامية و«الإخوان المسلمين»، وهذا ما لم يتم الاعتراف به حتى هذه اللحظة. فمعظم السعوديين ممن يمثلون الدعاة والوعاظ والمفتين اليوم هم ملوثون بعدوى «الإخوان المسلمين»، ومعهم تحولت السلفية والوهابية أداة للوصول إلى أهدافهم وتسهيل تسرطنهم في المؤسسات التعليمية والدينية، وتورط بعضهم بالإرهاب وبدعمه.