تكاد تكشف العلاقة بين أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي طبيعة الحياة الفكرية والثقافية في بغداد، وعلى الأخص ما كان بين أهل الحديث/ السلف وبين المعتزلة، فقد كانت الوحشة بين الاثنين انعكاساً للتنافس في مجال أوسع. استأثر أهل الحديث بالعامة، بينما كان المعتزلة الأقرب إلى الخلفاء، وقد عرف المحاسبي بشدته على نفسه منذ مراهقته، يروي أصحاب أحمد بن حنبل عن الحارث قصة في مراهقته، حين تعلق بتلابيب ثوب أبيه أمام الناس عند مدخل بغداد يطالبه أن يطلق أمه لأنها لا تحل له. وحسب هذه القصة، فإن المحاسبي كان يرى والده كافراً، لا يحق له أن يمسك بعصمة أمه، ويعزز هذا الموقف -إن صحت الحكاية- أنه تعفف عن نصيبه من ميراث والده الثري الذي كان يقدر بسبعين ألف دينار، وهي ثروة تجعل منه ميسور الحال مدى الحياة.
ولكن من المعلوم أن التوارث بين الأصول والفروع لم يكن محل خلاف البتة في ذروة هذه الخلافات، مما يعني أن ثمة ما كانت تخفيه البيوت من أسرار في تلك الفترة في مدينة السلام، أبعد من القول بالقدر أو الاعتزال، فهذه الفترة نفسها شهدت ذروة الحركة الشعوبية التي كانت الزندقة غطاء سطحياً لها. هذا الصعود ترافق مع إنشاء ديوان الزنادقة الذي رعاه وأسسه المهدي العباسي، ولكن لأن دعوى الزندقة واسعة فقد ذهب ضحيتها شعراء، ومتصوفة، ومتكلمون، وثائرون سياسيون وناقمون بالتأكيد. وهذه الفترة الخصبة كانت تشهد أيضاً ثورات ضد الخلافة، يقوم بها أبناء عم العباسيين من أهل البيت وغيرهم، وكانت هذه الحركات الفاشلة دائماً تجد عمقها في أشتات من الفئات تعاني الأثرة والإقصاء.
وتوضح قصة المحاسبي مع أبيه وهي فريدة من نوعها، إضافة إلى عشرات الوقائع التي تغص بها مراجع الأدب والتاريخ منذ منتصف القرن الثاني الهجري حتى فترة حكم المتوكل، أن نخبة التجار والكتاب والأدباء في بغداد كانوا إلى حد كبير ذوي ميول فلسفية وفكرية مختلفة إلى حد كبير عن عقائد العامة، وهو الأمر الذي يفسر لماذا كان غالبية الأدباء والشعراء والكتاب وأصحاب القلم وموظفي الدواوين والقضاة من أصحاب أبي حنيفة هم النخبة الأقرب إلى الخلفاء وأمرائهم. ف«يبوسة» تدين أهل الحديث لم تؤهلهم لنيل مستوى من التعليم والثقافة يجعلهم قادرين على هضم التحولات الكبيرة، ورحابة الصدر وسعة الأفق للتعامل مع التنوع والعادات والسلوكيات التي لا تتوافق مع تصورهم لصرامة التدين، ولا قدرتهم على استيعاب التراتيب الإدارية، ولا الانسجام مع غير المسلمين ممن بقوا على دياناتهم من الأطباء والمترجمين والفلكيين وغيرهم من العلماء.
اقترب العباسيون كثيراً في فترة دعوتهم السرية ضد الأمويين، من معظم الفئات المهمشة التي عانت من الأمويين، ولكنهم بعدما استقامت لهم الخلافة، واجهوا تحدياً كبيراً في إرضاء هذه الفئات، وهذا ما يفسر لماذا قام المهدي العباسي بتأسيس ديوان الزنادقة، بعد والده أبي جعفر المنصور الذي سحق أكبر خطر واجهه العباسيون المتمثل في أبي مسلم الخراساني.
قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد الذي يشار إليه بأنه كان وراء التأثير الكبير على المأمون ومن جاء بعده طوال اثني عشر عاماً هي سنوات محنة خلق القرآن، كان نجاحه الكبير إدارياً وعبقريته في اختيار نخبة القضاة لتثبيت أركان الخلافة، وقد امتنع أحمد بن حنبل عن إصدار فتوى للمتوكل بجواز مصادرة أموال وعقارات ابن أبي دؤاد بعد الانقلاب. أخيراً فإن انقلاب المتوكل على المعتزلة يشابه إلى حد كبير غموض انقلاب الرشيد على البرامكة.