في كتابه «تاريخ العلم المغزول بالحرير» يرفض «إس. فريدريك ستار» المزاعمَ التي تؤكد انحدار الحضارة الإسلامية بعد الحروب المغولية، ويرفض «ستار» بإصرار النظرية التي تتهم المغول بالتسبُّب في بدء التدهور الفكري، فيقول: «إن ذلك التخلف الذي غشى العالم الإسلامي حدث قبل غزو التتار بقرنٍ كامل، إذ كانت الضرائب والتجارة آنذاك تَصُبّان الذهب في خزائن حُكّام ما وراء النهر، الذين توقفوا عن استثمار المال في الحياة الفكرية». ويؤكد «ستار» بشجاعة أنه بعد أن خسر هؤلاء الحكام الحربَ العظمى أو بعد حدوث غزو المغول، الذي تتفق المصادر التاريخية على أن دولة الخوارزميين هي التي بدأته، فشلوا تماماً في إعادة إعمار دولهم.
هل يمكن للحروب والاضطرابات التي يعيشها العالم العربي، وأجواء القلق والخوف التي تظلل المنطقة أن لا تكون عائقا أمام التقدم والازدهار، وأن لا تحول دون الإبداع والابتكار وانتعاش العلوم واستمرار تطورها؟ وهل يمكن لمثل هذه الظروف التي يعيشها العالم الإسلامي أن تحافظ على مساحة الحريات الفكرية والاجتماعية التي تنعم بها بؤر وبقاع متباعدة في محيط من الآلام والأحزان والغضب والأحقاد والفقر الذي بدأ الآن يتمدد حتى للمجتمعات المرفهة، في مساحة جغرافية ممتدة من إندونيسيا إلى المغرب؟ هل يمكننا الجزم بأن منطقتنا الملتهبة الآن ستكون أكثر صلابة وتماسكاً ضد الغلو في الدين، وتسهم في انحسار التطرف و«الدعشنة»، وتحافظ المجتمعات التي بقيت متماسكة حتى الآن على سلمها الاجتماعي من دون أن تنجر نحو الاحتراب المذهبي والديني والعرقي والقبلي؟
يمكن القول إن الحكم على مساحة جغرافية هائلة تشمل 52 دولة إسلامية، وما يربو على المليار مسلم، في بلاد متعددة اللغات والأعراق والديانات والثقافات والعادات، هو تسطيح مبتذل وابتسار لا يمكن التسليم به. ولكن يمكن أيضاً الإشارة إلى أن ثمة مشتركاً كبيراً يلمُّ كل هذه الفسيفساء وهو الثقافة الدينية.
يمكن القول إن في قراءة الكتب والآداب والتاريخ الذي يتناول الحياة الاجتماعية والعلمية والاقتصادية للشعوب التي خضعت لحكم المغول منذ جنكيز خان إلى قبلاي خان، وهي تغطي عشرات السنين ما قد يساعد في فهمنا أسباب تخلف مسار العلوم في العالم الإسلامي، في أعظم حواضره في بلاد فارس وفي بغداد والشام ومصر.
هنا يمكننا طرح سؤال مشابه عن الطائفية والكراهية بين أتباع المذاهب والأديان، وهل هي حالة طارئة ناتجة عن صعود الثورة الإيرانية، لا علاقة للجهاد الأفغاني بها، ولا رابط بينها وبين صعود الجماعات الدينية قبل الثورة الإيرانية بعقد تقريباً في بداية السبعينيات من القرن الماضي. ومما لا جدال فيه أن التطرف الديني الذي تغذى من الصحوة الدينية لا يمكن تبرئته أساساً من شيوع الكراهية الدينية والمذهبية.
تتصل بهذا التساؤل حقيقة تاريخية وهي أن حكم العُبيديين لمصر والشام وشمال أفريقيا واليمن لمائتي عام في القرنين العاشر والحادي عشر، وتمدد القرامطة بحماستهم المذهبية والحروب بين هاتين الطائفتين الإسماعيليتين آبَ إلى انحسار شبه كامل لهما، وإلى علو الإسلام السني كَرة أخرى. ولكن بقيت العلوم والفنون وطرق التدريس العُبيدية حتى اللحظة هذه.
الفكرة الجوهرية لهذه المقالة هي: هل يمكننا أن نتوقع سلاماً اجتماعياً وتنامياً للحريات الفكرية والاجتماعية والسياسية في منطقتنا؟ هل يمكن القياس بين ما تعيشه منطقتنا الآن، وبين ما عرفته أوروبا عقب الحربين العالميتين من ازدهار وحضارة وحريات، أم أن المزاج العربي والآسيوي المسلم هو في طور الولوج في عصر الظلمات ولجة الأحزان.