يروي الذهبي في «سير أعلام النبلاء» قصة وشاية سفيان الثوري بواحد من أبناء عمه إلى صاحب الخبر العباسي بأنه ذو نزعة خارجية يؤمن بالسيف، عاش سفيان الثوري في القرن الثاني الهجري، وتوفي بعد قيام حكم العباسيين بثلاثة عقود. كان سفيان الثوري خشن العشرة، ومتنسكاً ومنعزلاً عن السلطان رافضاً تولي القضاء، ولهذا السبب تظاهر بالجنون والسفه.
ولأن الوضع في بداية العصر العباسي كان مختلطاً، ما بين معتزلة مقربين من الخلفاء العباسيين، أذكياء فصحاء متنوعي المعارف، محتفظين بعلاقة جيدة نتجت عن سنوات الكمون أثناء الدعوة السرية لبني العباس قبل أن يعلنوا ثورتهم، وهي الفترة التي كانت تمثل تهديداً كبيراً وقلقا لأهل الحديث. أي إن المعتزلة وأمثالهم عاشوا ربيعاً فكرياً وفلسفياً وحرية في الدعوة إلى أفكارهم والتبشير بها، بل وعقد مناظرات علنية في المساجد مع خصومهم، وفي مجالس الأمراء. وأهل الحديث وجدوا في مبالغتهم في إظهار الولاء للحكم القائم مكسباً كبيراً يمكنه أن يبعد خصومهم المعتزلة، وأهل الحديث كانوا يملكون سلطة هائلة جبارة وهي السند والرواية، وهذا ما لم يتمكن المعتزلة من نيله، وزاد البلاء على المعتزلة بعد إحكام أهل الحديث القبضة على فن الجرح والتعديل واحتكارهم له. وأياً يكن فقد كانت الوشاية هي السوق الرائجة.
كان عدد من حواضر الإسلام الكبرى تعج بالتناقضات التي دفعت بعضاً من الأعلام المتدينين إلى الابتعاد حيث الثغور على الحدود بين دولة الإسلام والكفار، لتفريغ طاقتهم في الكفار بدلاً من أهل الإسلام، وآخرون لجأوا إلى التنسك في الحرمين، فالصراعات الكلامية كانت تخدش سلامهم الداخلي وتقحمهم في حماقات تصل أحياناً إلى حد الصدام في الأزقة والتراشق بالحجارة واقتحام كل طرف مجالس التعليم عند خصمه وإفسادها. عبدالله بن المبارك، والفضيل بن عياض مثالان بارزان على هذه الحالة من الإحباط، ولكنهما رغم ذلك كانا حين يعودان إلى أصدقائهما ينخرطان مرة أخرى في الخصام واللجاج وفتاوى التكفير.
أي أن الحرية التي عاشتها الأطياف الأخرى حتى الملاحدة الذين كان يمكنهم أن يعقدوا مناظراتهم مع نخبة الفقهاء ذوي النضج الفكري لم تكن كافية، بل كانت تتجه أحياناً نحو العنف، والأمراء والخلفاء الذين استمتعوا لعقود طويلة بمجالس المناظرة في دواوين حكمهم، كانوا غير مبالين لما يحصل في الجوامع والأحياء من هرج ومرج، وانتعاش أحكام التكفير المتبادلة بين الخصوم، حيث كانوا يرونها خلافاً مبنياً على التأويل، لا خطر منه مستقبلياً. ولكنهم واجهوا أخيراً تحدياً كبيراً في حسم موقفهم، ومن حين بدأ المأمون العباسي فتنته وأقحم المسلمين في فتنة خلق القرآن كانت الأمور تتجه نحو الأسوأ. فانبجست المعارضة عند بعض من أهل الحديث إلى ثورة مسلحة تدعو إلى إزالة «الكفرة» العباسيين الذين رجحوا كفة المعتزلة وامتحنوا الأمة.
في تلك الفترة وقبل المحنة سعى بعض من عقلاء أهل الحديث والمعتزلة إلى إيجاد مشروع تقارب بين الفريقين. قد تكون الصداقة العابرة بين أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وهو شخصية إشكالية إحدى هذه الحالات النادرة. وهي فترة قصيرة لم تدم، بسبب الشكوك والريبة، ومع أن أحمد بن حنبل كان يجد لمجالس الحارث ومواعظه تأثيراً كبيراً يدفعه لسح عبراته، إلا أنه يمكن اعتبار ما قام به المأمون لاحقاً أكبر ضربة قاصمة لمشروع التقريب المفترض. لنتذكر أنه في أواخر فترة الأمويين كان الفريقان رغم اختلافهما يتحمل كل واحد منهما الآخر، كما أن انسياق بعض المعتزلة إلى المعارضة المسلحة في مناطق الأطراف بسبب المظالم أصبح مقروناً بفساد اعتقادهم وعقيدة السيف التي يؤمنون بها.