منصور النقيدان
لم أكن أفكر قبل العام 1997 أن أكون يوماً كاتباً في الصحف، لكن صديقاً سودانياً من عائلة الطيب ابن المهدي من آل القاضي في أم درمان، قال لي يوماً ونحن في عنبر 2 في الزنزانة ,5 إنني قد أصلح أن أكون يوماً كاتباً معروفاً أو شيئاً من هذا القبيل، وحين كتبت له رسالة وداعية قبل نقلي إلى بريدة مسقط رأسي، مر بي قبل الرحيل بساعات وقال لي ‘’قرأت الرسالة، ربما تكون كاتباً يقرأ لك الناس، هذا رأيي.. فكر في الأمر’’. بعد سنة واحدة فقط نشرت أول مقال لي. كان في مدينتي شيخ جليل من آل المهيلب قد بلغ الثمانين من العمر، إذا أعجبته قرعة في السوق، أو بقرة حلوب، أو فرخ نخلة، أو تيساً سورياً، أو شاباً جذعاً يتوقد ذكاء ويتدفق نشاطاً، قال ‘’هذا وطني’’. كل شيء من أي شيء فهو ‘’وطني’’. كانت الوطنية عنده مرادفة للجودة الفائقة، للجماد والعتاد والحيوان وحتى الإنسان. توفي هذا الشيخ الناسك قبل ثمان سنوات. وكان بحق وطنياً رائعاً. اليوم بعد ثمان سنوات لا أدري ماذا أصنع؟ كيف أكون وطنياً.
في لحظة عصيبة مررت بها – خرست فيها كل الصحف السعودية حتى تلك التي لم تتردد بنشر مقال مترجم لسلمان رشدي في صفحة الرأي – لم يقف معي إلا صحيفة ‘’الوسط’’ البحرينية وخصصت ملفاً كاملاً للوقوف معي، كتبت مقالاً فيها عن خارطة الإسلاميين في السعودية، فجاءني العتب من جهات عليا عبر صديق لي ‘’كن وطنياً يا منصور، تراهم عاتبين عليك الكتابة في صحيفة شيعية لا تريد للبلد خيراً’’.
في اجتماع لرؤساء تحرير الصحف وعشرات من الكتاب السعوديين استدعينا إلى اجتماع سري مع مسؤول كبير في أبريل/ نيسان 2003 كانت خلاصتها أننا لكي نكون وطنيين حقيقيين فعلينا أن نتجنب الظهور في قناة ‘’الجزيرة’’. تجنبتها. ولكنني حين شاركت للمرة الأولى في تليفزيون القناة الأولى السعودي، أردت أن أكون وطنياً حين انتقدت تصريحاً لمسؤول سعودي كبير لم يكن متحمساً في مؤتمر صحافي لمنع السعوديين من القتال في العراق، قبل الاحتلال بأيام، فاضطرب مقدم البرنامج، وتنصل من الأمر وكأنني نطقت بلسانه، فأسفت بيني وبين نفسي لما بدر مني، وشعرت أنني جانبت الصواب وقلت ربما كان يفترض بي أن لا أشير إلى الموضوع أساساً إن كنت وطنياً صادقاً، ولكنني فوجئت أن أصحاب الشأن لم يكونوا مستائين، وان أحدهم اتصل بالتليفزيون وقال ‘’ليتكم زدتم من وقت البرنامج’’. فكرت بعدها أن البعض ربما يفهم الوطنية بشكل مختلف، وقبل تفجيرات مايو/ أيار 2003 بيومين كتبت مقالاً في جريدة الرياض، وذكرت بعض القصص التي وقعت في الجوامع والتي تشيد بأسامة بن لادن، فاتصل بي مسؤول كبير، تلاه أمير آخر يسألني عن صدق تلك القصص، وبعد تردد وتقليب للأمر، قلت في نفسي ‘’لا.. هذا لا يليق، هذه وشاية’’. ثم أقنعت نفسي أن القصة شهدها آلاف المصلين وليست سراً، هذا وقت الوطنية، ذكرت له الأسماء، ثم غرقت بعدها أسبوعاً كاملاً مكتئباً.
وحين كنت أتجهز للخروج من غرفتي في فندق هيلتون في القاهرة في الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني 2003 للمشاركة في برنامج حواري على قناة ‘’أوربت’’ مع عماد الدين أديب، تداركني أحد أصدقائي بدقائق وقال لي ‘’يسلمون عليك ويقولون.. خلك وطني.. اثبت وطنيتك’’. لم أكن اعرف بالضبط ما هو المطلوب، لكنني فهمت أن الحذر مطلوب وأن أتجنب توجيه أي انتقاد إلى الحكومة، أو الملك وولي عهده والنائب الثاني. كنت حذراً للغاية. نجحت ليلتها. فلم أمدح ولم أذم. وفي نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني من ذلك العام ارتكبت إحدى الجرائم، حين نشرت في صحيفة أجنبية انتقدت فيها لأول مرة المؤسستين الدينية والسياسية، بعد أسبوع قال لي ضابط كبير في الاستخبارات ‘’لقد أسأت إلى بلدك حين انتقدت الوهابية’’.
عرفت أن بعض الليبراليين كانوا مستاءين للغاية لأنني ذكرت في المقال أن الملك الراحل فهد كان مريضاً، بعدها بأيام في الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2003 طالبني أعضاء من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مني بحضور مدير تعليم الرياض السابق عبدالله المعيلي أن أكتب اعتذاراً للملك في الصحف عن إشارتي لمرضه، لأنني لم أكن وطنياً حينما كتبتها، وبعدها بشهور قال لي صديق ‘’إن أميراً شاباً قال لهم في مجلس حضره وزير الإعلام السابق، لو أنني كنت كاتب المقال لسحبت مني الجنسية’’. أصابني الرعب بعدها، وأدركت أنني لم أكن وطنياً بل كنت أقرب إلى الخائن. أصبحت أكثر حذراً. وبعد لقاء في مجلة أميركية انتقدت فيها السلفية كنت حذراً من أن أشير إلى الوهابية باسمها، ولكن المحررة كانت أكثر ذكاءً، أبلغني رئيسي في العمل رسالة أن ولاة الأمر مستاءون، ويقولون لك ‘’الوطني لا يقول مثل قولك’’.
وبعد عذاب ضمير أزعجني وأقلقني لسنتين شعرت فيها أنني خذلت أولئـك الإصلاحيين الصادقين الذين زج بهم في السجون، جاء إيقاف أحد الصحافيين بسبب كلمات فاه بها في منتدى على الإنترنت كانت كفيلة أن ينال عقاباً قاسياً في السجن لو أنه سلم من حكم قضائي يطالب بقطع رأسه والحكم بردته. أغلقت على نفسي ليومين في مكتبتي حزيناً على قلة حيلتي، وخذلاني لمن يحتاج نصرتي، فكتبت مقالاً في موقع قناة ‘’الجزيرة’’ الفضائية على الشبكة، عن الحرية الفكرية والصحافية، حاولت فيه أن أسدد ديوناً تأخرت في أدائها، وأكفر عن أخطائي، بعد أيام عرفت أنني ارتكبت جريمة الجرائم ‘’الهجوم على بلدي والتطاول على القضاء، والأمراء، والشيوخ وأهل السنة’’، وجريمتي الأخرى كتابتي في موقع الجزيرة. لقد خنت وطني في نظرهم.
الخوف والرعب يحاصرني كلما فكرت أن أكون حراً ومستقلاً وشجاعاً. يلهمني عبدالله القصيمي، ويدهشني خالد الدخيل، ويسحرني الجابري، وعبدالوهاب المسيري، ولو خيرت يوماً لما اخترت إلا أن أكون صاحب حايط في الخبوب الغربية لبريدة، يغلق دكانه مع مغيب الشمس ويخلد إلى النوم الثانية والنصف بالتوقيت الغروبي.
ينوء كاهلي برد الجميل لأصدقاء وأمراء، أصبحت في نظرهم الابن الضال وناكر الجميل و’’المهبول اللي ما عليه شرهة’’. أخشى أن أكون وحيداً يشمت بي الكارهون، ويهزأ بي المتطرفون، ويتجنبني من يفترض بهم أن يكونوا هم الأقرب إلي وأنا الأقرب إليهم، أولئك الذين يتجنبونني لأن سموه قد ينزعج للغاية أن عرف بمجالستهم لي، أخشى أن يطعنوني في ظهري فيهاجمونني في مواقعهم، كما فعل بعضهم من قبل ويفعلونه اليوم وكل حين، وكما كتب صديق سابق حينما خرجت على قناة العربية في سبتمبر/ أيلول ,2004 فكتب في جريدة الجزيرة السعودية يحرض ضدي ويتهمني بجرح مشاعر المسلمين، كل هذا لأنني لم اسمح له أن يتخذني مطية عند أمير يرجو منه شرهة أو الحصول على صفقة.
وكم مرة تداركت نفسي عن كتابة حقائق ونشر وقائع رأيتها وسمعتها، حتى لا يقال إنني لست وطنياً. ولما نشرت الصحف عشرات المقالات تهاجم إيران وتتهمها بتأجيج حرب لبنان، وكتب آخرون يدافعون عن حزب الله وإيران التزمت الصمت لأنني لم أشأ أن أكتب مالا أؤمن به، قيل لي بعدها ‘’لقد أضعت فرصة ثمينة تثبت بها وطنيتك’’. وحين أخبرني صديق أنه مع مجموعة من الصحافيين كتبوا عريضة يتسولون فيها قطع أراض من حاكم خليجي فاحش الثراء، وأنهم أحسنوا إلي وكتبوا فيها اسمي معهم تألمت كثيراً وهددت أنني سوف أفضح كل شيء في الصحف إذا لم يحذفوا اسمي من ورقتهم. فعلت كل هذا ظناً مني أنني وطني. ولما أن قتل بعض رجال الأمن الأبرياء بطريقة وحشية على أيدي بعض المجرمين الخوارج، جللتني الظلمة وأحاطت بي الأحزان، فأرسلت تعزية لمن يهمهم الأمر من المسؤولين ثم ترددت كثيراً قبل إرسالها لأشخاص لا أحبهم. صراعاً مع نفسي. حسمتها وقلت ‘’هكذا فافعل إن كنت وطنياً’’.
وحتى اليوم كلما توقفت عند مكتب الجوازات قادماً إلى الرياض، متسائلاً دوماً هل سأخرج من المطار في باص نحو زنازين ‘’عليشة’’، أو سألقى اتصالاً من شعبة الإعلام مساء يوم وصولي ‘’لا تتعب روحك، إذا فرغت مرنا عندنا لك ورقة’’.أم سأكون بعد يوم بين أهلي ودلال القهوة والتمر السكري؟ وإذا توقفت عند مكتب الجوازات قافلاً إلى ولدي وزوجتي، رجف فؤادي وأنا متربص أنتظر لعشر دقائق ماذا سيحمل العريف ذو الشريطين من خبر وعيناي لا تفارق جوازي الأخضر. أعتذر لكل أولئك الذين خذلتهم، فلم أدافع عنهم. ولكل تلك الشلل والتجمعات التي لم أعرف يوماً طريقي إلى مجالسهم، ولم أخط يوماً حرفاً على بياناتهم. هكذا وطنيتي.