في عام من الاضطرابات التي عصفت بالأمة العربية، نشر مفكرون وكُتاب عالميون من عرب وغيرهم، أفكارهم حول حاضر ومستقبل الربيع العربي. بعض منهم جمع أشتاتاً من ملاحظاته التي أنجزها قبل 2011، فضمها إلى أخرى استجدت بعد التطورات ثم دفع بها إلى المطبعة. آخرون أعادوا صياغة بعض مقالاتهم التي سبقت الاحتجاجات العربية وسابقوا الزمن وسارعوا في نشرها. فئة ثالثة عمدت إلى جمع مقالات سابقة تدعي أنها تنبأت بما حدث في مصر وتونس وسوريا، قبل وقوعه بسنوات خمس أو عشر أو أكثر.
أحدهم وهو روائي كبير امتاز بالرصانة والحكمة، سارع إلى صنع مقدمة لكتاب كان قيد الطباعة في نهاية 2010، فجاءت المقدمة متفائلة ولكن الكتاب مفعم باليأس والإحباط. البعض بشر بالربيع في مارس 2011، وعاد في نوفمبر من العام نفسه يحذر من خريف، بينما ولول ثالثٌ من شتاء عربي قد دنا وخيبة أمل كبرى. كثير ممن نقرأ لهم أو نراهم على الفضائيات تعلموا جيداً، وأتقنوا أدوات الكتابة ومهارات الظهور الإعلامي ولكنهم افتقدوا شيئاً واحداً هو أساس المعرفة، وهو الإقرار بالجهل ونقص المعرفة وعدم امتلاك رؤية واضحة لكل ما يقع. وعلى رغم أن ما يكتبونه أو يقولونه في مناسبات متعددة يناقض بعضه ويخالف ما سبقه، ومع كل ظهور لهم تتولد نظرية جديدة، من دون أن يشيروا إلى أنه لا يتوافق مع ما قالوه قبل أيام. إنه عدم احترام للقارئ والمشاهد، وغرور وادعاء بمعرفة كل شيء.
في كل فترة ومع كل موجة تضخ الصحف ووسائل الإعلام والإنترنت أصواتاً ووجوهاً وأقلاماً جديدة، تتفاوت في انتماءاتها بين المحافظة والتجديد، بين الانفتاح والانغلاق، متنوعة في مستوى وعيها وقدرتها على شرح فكرتها. تنوعت في مواقفها من الحريات وحقوق الإنسان والدين، تنوعاً وصل إلى حد التضاد والتناقض أحياناً. بعضهم يؤمن بالفكرة ونقيضها، وربما نقض مقالاً كتبه قبل أسابيع بمقالة جديدة تنسخ ما سطره، وأحياناً يضطر إلى كتابة مقالة ثالثة يشرح فيها وجهتي نظره ويوفق بينهما. أحياناً يتبنى الكاتب أفكاراً متخاصمة في فترات زمنية متقاربة.
والقليل مما نكتبه اليوم أو نقرؤه يمتاز بالأصالة والتأثير، ومعظم الذي نكتبه مستنسخ من بعضنا أو مكرور بأسلوب آخر ولكن الجوهر والفكرة واحدة. وليس ذلك راجعاً إلى ضمور اللغة وضعف الملكة والهزال العقلي فحسب، بل إلى التلوث بأنفاس البشر ومعاشرتهم حدّاً يفسد صفاء الروح ونقاء النفس وطمأنينتها، فالنفوس المريضة الملوثة لا تحظى بإشعاع يحلق بالأرواح، إلى الأفق الأعلى نحو سدرة المنتهى وملاذ النفوس المتعبة، فالأصيل في عالم الأفكار إنما يقتبس من عالم المثال قوته، فينبجس عن تأثير كاسح للعقول بعيد الغور مزلزل، لامع في وضوحه كالبرق، أو كالضوء الذي يغمر المكان فجأة فتنكفئ الهوام، وتفر القوارض، وتنزوي الضباع وتأرز الحية إلى جحرها.
كم نحن بحاجة إلى الغرباء من الكُتاب، سدنة الحريات والعقول والاستنارة، الذين يتلون تعاويذهم وينفثون رقاهم ويدرأون الشر عن حمى النور ويثرب التنوير، وإذا بلغت الأمور الغاية في حرجها ضاعفوا جهودهم وحشدوا جموعهم واقتطعوا من أرواحهم ما يكون وقوداً يزهر في الليالي المظلمة ويحول دون أن تنتصر قوى الشر، وأن يقع أسوأ غائب ينتظر، حين تعيث في المدينة ضباع الجهالة وغربان الظلام وسحب الفتاوى السوداء.