لن يكون عام 2012 ربيعاً ولا خريفاً ولا شتاء للأمة العربية، بل سيكون عاماً غريباً، لأنه سيكون موسم الحصاد ومواجهة الحقيقة التي لا يحب الحالمون أن يروها ولا الثائرون أن يواجهوها، ويغفل عنها أو يجهلها الشباب في غمرة العالم الافتراضي الذي يخدر عقولهم ويضلل مداركهم عن واقع مجتمعهم. سيكشف عامنا هذا أن القدرة الخلاقة على الحشد والتجميع وإثارة الفوضى لا تعني القدرة على البناء وفرض الاستقرار. سنكتشف بصورة فاقعة الثابت والمتحول، الجوهر والعرَض في كل ما يحدث.
إن الثابت والجوهر في مجتمعاتنا هو تلك القيم والأخلاق أو الطبائع التي لم تندثر، لأنها شكلت شعوب وثقافة وتاريخ المنطقة أزماناً سحيقة، فهي روح هذا الفضاء الاجتماعي الذي يضم زهاء 300 مليون إنسان أو تزيد. فبينما يحتفل الحالمون بعصر ثوري جديد، ترمق هذه الروح كل ما يحدث، تهزأ من الخطب والوعود التي تعطى بلا حساب،
ومن الثوار الذين يهجون تجسداتها ويسمونها قوى الثورة المضادة، فهي بنت التاريخ ومحركه قروناً من الزمن، ولن تعيد خلق نفسها إلا بثورة تحفر عميقاً في بنيتها وتزلزل كل شيء في مناحيها وتطرح أسئلتها الكبيرة، وكل ذلك لم يأتِ أوانه بعد.
في عام 2011 تفجرت طاقة هائلة استنفدِت واستهلكتْ، وكانت ثمرة كل ذلك مثل قبض على الريح. و2012 سيكون عام تواضع من شمخت أنوفهم وظنوا أن دولتهم قد دالت، وسيكون عام الفاقة لمن ظنوا أن الأماني الكاذبة والخداع برفع المصاحف والنوم مع الشيطان يمكنه أن يطعم الملايين، ويوفر الوظائف، ويجني اللبن والعسل.
منذ 2009، ومع ويكيليكس، تساقطت أقنعة بعض السياسيين والأنظمة، إلا أنه كان دورة تعليمية بالمجان لمئات الملايين من البشر عن الكيفية التي يفكر بها السياسيون وكيف تخاتل الدول بعضها بعضاً، وكيف يتكاذب بعض الساسة وكيف يتفاوضون. وما بعد هذا الزلزال كان تأكيداً للدرس الكبير: أن الجميع ضرب صفحاً عن كل ما كُشف عنه لأنهم كلهم متورطون، وكلهم سياسيون، والسياسة لا شرف لها، بهذا المعنى. عام 2011 كشف المخبوء في الصدور، والمطمور في القلوب، والأهداف والأجندة الخفية لأفراد وجماعات وتيارات وفئات، فتساقطت كل الأقنعة، وواجه الجميع أنفسهم.
كان العام المنصرم أشبه برهان أو مقامرة، فوجد فيه البعض فرصة سانحة لكشف وجهه الحقيقي وصدق ولائه الذي كان يتذرع به آناء الليل والنهار، وبعض آخر وجدوا فيه تعويضاً عن خيباتهم في سنوات شبابهم، وآخرون وجدوا فيه متنفساً للتعبير عن ثأر انتظروه سنين طويلة، وآخرون وجدوه فرصة لاستعادة كرامتهم المنقوصة وشرفهم المهان، بينما يردد البعض :
جزى الله الشدائد كل خير * أبانت لي عدوي من صديقي.
وفي النهاية مَن يكسب هم الذين يعرفون التاريخ جيداً ويقرؤونه بتدبر، ويستثمرون بذكاء ثقافتهم العميقة بقيم وأخلاق وطبائع وعادات المجتمعات التي نشأوا فيها، ويطمحون إلى التحكم بشؤونها وقيادتها. فمن يراهن على الثوابت التاريخية الاجتماعية هو من يكسب، وليس من انجرف وراء الأحلام والأماني الكبار، على رغم جمالها الأخاذ وروعتها التي تسلب الألباب، لأنها تأسست على أرض هشة، لا قرار لها، ولا استمرار، ولا تاريخ، ولا مستقبل.
ومن دروس عام 2011 العظيمة أن الولاء الفطري الذي تمحضه المجتمعات لحكوماتها ولقادتها السياسيين يمكن أن يتهاوى أو يذبل في خضم طوفان الإعلام والإنترنت، ما لم يكن ذلك الولاء مؤسساً على أرض صلبة، تحمي الشباب من أن يوظفوا دون أن يشعروا فتكون قلوبهم مع قادتهم بينما أنشطتهم مع الشيطان. عام 2012 سيكون عامّاً واقعيّاً. واقعيّاً جدّاً.