في الأيام الماضية خصصت جزءاً من وقتي لتأمل مشاهد البكاء والهستيريا التي تنقلها وسائل الإعلام للكوريين الشماليين بعد رحيل كيم جونج إيل. فقد شاهدت كثيراً من الأفلام اليابانية والصينية وغيرها من التقارير الإخبارية، التي تحوي مشاهد البكاء والدموع النابعة من الأعماق صامتة وخجولة. تلك المشاعر التي وصفها توم كروز في فيلم الساموراي بأنه “خلف تلك السحنات الهادئة خزان من المشاعر الحزينة المطمورة في الأعماق”. وهو ما نلحظه في أمم الشرق الأخرى كالإندونيسيين والفلبينيين.
إن مشاهد البكاء الغريبة المشابهة لبكاء الأطفال التي رأيتها بعد إعلان الوفاة وأثناء تشييع الجنازة كانت أقرب إلى التمثيل منها إلى الواقع، وربما كان القصد من ذلك إظهار عمق محبة الشعب لزعيمه الراحل، على رغم الإذلال والقمع والخوف والتجويع والعزلة العظيمة التي يرزح تحتها الكوريون الشماليون منذ ثلاثة وستين عاماً، توارثت الحكم خلالها عائلة واحدة، من الجد إلى الابن إلى الحفيد، في نظام جمهوري.
إن الموضوعية والمنطق يقتضيان أنه إن كان ثمة ما يعصف بجوانح الشباب والشعب الكوري ويثير مخاوفهم والقلق في دواخلهم، فهو كيف يمكنهم الآن أن يصلوا إلى ما وصل إليه أبناء عمومتهم في الجنوب، ويخلفوا وراءهم عقوداً من الظلمات. كيف يمكن للأزهار أن تتفتح وتتنفس، وكيف يمكنهم ردم الهوة بينهم وبين العالم من حولهم، مع زعيمهم الجديد الذي يبدو أنه قابع في شرنقة من سبقه. هذا قانون يحكم المجتمعات كما يخضع له الأفراد، لأنه ببساطة هو قانون الحياة.
أما الأفراد فلي عنهم خبرة وملاحظات. فمنذ أكثر من عقدين وأنا أرقب ثبات وتحول كل من حولي في مواقفهم الفكرية وقناعاتهم الدينية ومواقفهم السياسية. البعض بقي كما هو حتى فارق الدنيا، وآخرون عادوا إلى مرابعهم كما عهدوا عليه آباءهم وعشيرتهم. آخرون جرفتهم الحياة بعد أن أصبحوا بين يدي الأيام كورقة تقلبها الرياح، وفئة منهم اختارت طريقاً نقيضاً لما عاشوا عليه سنوات، واعتنقوا أفكاراً أخرى منحوها من أرواحهم ووقتهم وعواطفهم مثل ما حظيت به مرحلة سابقة عاشوها بعمق حتى بلغوا فيها أقصى ما يمكنهم أن يبلغوه. والبعض قابع في منطقة رمادية، وآخرون تتجاذبهم الأهواء.
في عام 1989 ، كنت محظوظاً بلقاء عابر بمفتي السعودية الأسبق الشيخ عبدالعزيز بن باز. كانت الخطوات التي رافقته فيها مع صديقي مفعمة بالعواطف الجياشة. كان الشيخ يومها قد ناهز الثمانين وكنا اثنين مراهقين، أنا في التاسعة عشرة وصاحبي أصغر مني. ولكننا كنا نرى أن لنا حقاً في سؤاله ومساءلته لأننا قضينا سنوات نتربى على تعاليمه، حتى تلك التي ربما أنه نسيها هو، ومضى عليها الزمن ولكن وثقتها الكتب ونقلتها الرسائل، وكانت تبدو حتى لأقرب طلابه مثيرة للدهشة ومنكراً من القول.
وبكثير من التهذيب وقليل من الخشونة قضينا دقائق ونحن نعظ الشيخ ونخوِّفه بالله ونحذره من عظم مسؤوليته. كان يستمع بشفقة مشوبة بالألم، وكان لطيفاً حداً منع فيه مرافقه من قطع اجتماعنا. قال كلمة واحدة كانت تختصر الحال: “لقد تغير الزمن، وتغير المجتمع، وما تذكرونه من فتاوى أصدرتها قبل أربعين عاماً، فأنا اليوم أقول بخلافها لأنها الأيسر والأسمح”.
تاريخ الأفكار متخم بالعلماء والفلاسفة والمفكرين والكتاب والفقهاء والأدباء والمصلحين ورجال الدين الذين تنقلوا في عقائدهم، وتحولوا في أفكارهم وسلخوا قناعاتهم السابقة وآمنوا بأخرى. إن القانون الذي يحكم تلك الظواهر هو أن التغير والتطور سُنة الحياة، وأن الإنسان مهما أغلق المنافذ المعنوية والمادية لكي يبقى في حالة الثبات، فإن سعيه خائب وجهده كالهباء والخط على الماء.