تشهد بلدان إسلامية وعربية هذه الأيام استمراراً لما عاشته المنطقة منذ أكثر من عقد من تفجيرات وعمليات إرهابية تغذيها دوافع متعددة دينية وطائفية، وكنا بعد مقتل بن لادن منتصف هذا العام قد شهدنا موجة عارمة من البهجة الغامرة في أجواء الاضطرابات التي تجتاح المنطقة، وتباشير بانحسار “القاعدة” والجماعات الإسلامية المسلحة.
في سبتمبر 2009، أقامت جامعة إدنبرة مؤتمراً عن “إعادة التفكير في الجهاد” شارك فيه أكثر من ثلاثين باحثاً من أنحاء العالم. ثلاث ورقات ألقاها إسلاميون قياديون كانت تنصب على أن الجهاد اليوم هو جهاد حضاري بعيداً عن العنف والسلاح، وعلى مائدة الإفطار ليلتها كنت أشارك اثنين من قيادات الإسلام السياسي في مصر وتونس،
ألقى كل واحد منهما ورقة تؤكد على رفضهما لفكر “القاعدة” والجماعات الإسلامية المسلحة. على طاولة العشاء سمعت من أحدهما وجهة نظر أخرى هي نقيض الكلمة التي ألقاها، فقد كان قرار جماعة إسلامية مسلحة في الجزائر بتسليم أسلحتها إلى الحكومة صادماً له، لأنهم كما قال “سلموا أسلحتهم من دون أي مكاسب سياسية، وهذا كان خطأ كبيراً”. وكأن ما ألقاه أثناء المؤتمر ليس إلا ضرباً من النفاق ومجاملة لا تعكس حقيقة ما يؤمن به.
هذه القصة تؤكد أبعد من التقية والمداهنة، وهي أن الأفكار الجميلة والجريئة والثورية لا يمكن لها أن تحدث تغييراً حقيقيّاً ما لم يكن أصحابها مؤمنين بها إيماناً صادقاً وعميقاً، وليس شعاراً يستهلك ويرفع لنيل مكسب سياسي.
واليوم أعيد ما ذكرته في مقالة قديمة كتبتها عام 2009 أن كتب الفقه اقتصرت على جهاد السيف وأحكامه، بينما انحصرت كتب التصوف في جهاد القلب والنفس: الجهاد الأكبر، وهيمنت سطوة الفقهاء وعلوم الشريعة على مجمل مفاصل قصة الحضارة الإسلامية وتاريخ المسلمين وثقافتهم، وفي الوقت الذي انحسرت وتضاءلت فيه الرقعة التي يسمح فيها للتصوف ورياضة النفس والباطن والجهاد الأكبر بالتواجد والمزاحمة، كان الجانب الآخر يتضخم ويسيطر بشكل مفزع ومخيف. ولهذا كان تاريخ الثقافة الإسلامية تلخيصاً لقصة الفقهاء ونفوذهم الطاغي وموقفهم من السلطة السياسية.
اليوم يتسلل على استحياء مصطلح الجهاد الأكبر جهاد النفس، وما يسميه المحدثون من الفقهاء بالجهاد الحضاري إلى قاموس الفقهاء، ومع أن هذه شمعة مضيئة ومبعث أمل لا يكاد يضيء أو يزهر، إلا أن كل هذه الجهود والمساعي لن تثمر ما لم تصاحبها إعادة تفسير لمفهوم الإيمان الذي يمنح الإنسان الطمأنينة ومحبة الله.
لقد انتعش في فترة مبكرة من فجر الإسلام تيار من المتكلمين قصر مفهوم الإيمان الحقيقي على الإيمان القلبي ووجد في قصة مؤمن آل فرعون والنجاشي ملك الحبشة سنداً له، ووجد له أنصاراً لدى طائفة من فقهاء العصر الأول، فانصب اهتمامه الأكبر على صلاح الباطن ونقاء السر، وأنزل الظاهر والأعمال والعبادات العلنية في مرتبة ثانوية، ولكن هذه المدرسة تم إجهاضها مبكراً على أيدي الفقهاء، وعبر قصة محزنة يطول الحديث عنها وجدتْ هذه النزعة أحياناً مخابئ لها في الإيمان الصوفي الذي أبدع أعظم ما ترجم من الآداب الإسلامية إلى الحضارات الأخرى، وما لم يتم اليوم إنعاش وبعث لهذا المفهوم فإن أي محاولات عن مستويات أخرى من الجهاد تقلص من مساحة الفقه الذي يبرر إهراق الدماء وقتل الأبرياء واستباحة الأموال وإثارة الخوف، هي جهود ضائعة ستذهب أدراج الرياح.