ما خسرته البشرية من حريق المتحف العلمي بمصر يوم السبت الماضي لا يمكن تقديره بثمن، فضياع 192 ألف كتاب ومخطوط هو كارثة للحضارة الإنسانية وليس مصاباً مصريّاً فقط. والفاجعة الكبرى أن المصريين أنفسهم هم من أتلفوا أحد أعظم مفاخرهم وكنوزهم. ولأن الشجي يبعث الشجي والفقد يذكر بالفقد، فسوف أروي تفاصيل مصاب كان قد ألمَّ بي قبل سنوات بعيدة، واليوم أكتب عنه بعدما شفيت منه، وقد يكون فيما أرويه ما يثير الحزن وربما يثير الضحك أو السخرية أيضاً، ولكنه توثيق لتاريخ أنا الشاهد الرئيس فيه.
قبل اثنتي عشرة سنة ضاعت مني مكتبة كانت تحوي ألفي كتاب تقريباً، معظمها من كتب التراث وعلوم الشريعة التي يمكن اليوم الحصول عليها بسهولة في قرص واحد يحوي عشرة آلاف كتاب بأقل من مئة درهم. كانت مكتبتي تضم طبعات نادرة، وأخرى مزينة بحواشٍ وتعليقات لعلماء دين فارقوا دنيانا قبل عشرات السنين، وبعض الكتب كانت تحوي تعليقات قيَّدتها من شروح شيوخي سنوات الطلب في حلق العلم في المسجد. ومن بين مقتنيات مكتبتي كذلك أربع مخطوطات لكتب يعود أقدمها لثلاثمائة سنة تقريباً.
كانت عندي حقيبة جلدية صغيرة عمرها يقارب السبعين عاماً، تحوي اثنتي عشرة رسالة أو تزيد، وأهمية تلك الرسائل تنبع من علاقتها بتطور الفكر الديني في وسط السعودية منذ منتصف القرن العشرين، والجدل الذي تسببت فيه القرارات الإصلاحية التي اتخذتها الدولة في التعليم والإعلام والاقتصاد والمرأة. ومن بينها رسالة لإمام مسجد قررت الحكومة هدمه لدخوله في توسعة السوق، ولكن الإمام وقف للقرار بالمرصاد وقام بجمع التواقيع وقاد حركة احتجاجية باءت بالفشل، وبعد تفريغ المسجد من الأثاث، قام أحدهم بالتسلل خفية ونثر عشرات المصاحف بين أعمدة المسجد، لإثارة الجمهور وغضب الأتقياء بعد اكتشاف وجود المصاحف في الهدم، ولكن الخطة فشلت. وبدلاً من أن يكسب هذا الإمام المسكين الاحترام والشعبية فقد كان جزاؤه العزل والنبذ والهجران من شيوخه ومن المسؤولين.
ورسالة أخرى كانت نصيحة لبعض الحجاج بألا يؤذوا جيرانهم في منى بأصوات القراء من الراديو إن كان الجار يتأذى من ذلك، وثالثة كانت عن كيف يمكنني أن أحكم على من يحلق لحيته بأنه فاجر إذا تكرر منه ذلك، وما هو العدد المطلوب من المرات التي يمكن إذا توافرت رمي المسلم بعدها بارتكاب الكبيرة، وإذا نقصت يمكن وصفه بمقترف الصغيرة. كانت هذه هي همومنا في الغالب والملفات الحساسة التي كنا نناقشها على الدوام ونخوض مجالس المناظرة لأجلها.
كانت إحدى الرسائل لفقيه راحل يجيب فيها عن سؤال وُجِّه إليه عن حكم أن يتباهل مسلمان بسبب خلاف فقهي أو عقائدي (أي يدعوان على بعضهما بعضاً) أن يمسخ وجه المبطل منهما وجه حمار، وكيف يمكن التعامل بعد ذلك مع هذا الأخ المسلم إن استجاب الله الدعاء ومسخه حماراً، وتولد عن تلك الفرضية مسائل أخرى، ماذا لو رغب المسلم الذي له وجه حمار أن يحضر صلاة الجماعة في المسجد، هل يُسمح له بذلك أم يحال بينه وبين الحضور. وقد بحث أحدهم المسألة وأثبت أن المرويات التاريخية تؤكد أن من مسخوا فيما سلف من الأمم والأفراد قردة وخنازير لا يمكنهم أن يعيشوا، ولهذا هدأت نفوس البعض، ولأن الحادثة قد مضى عليها عشرون عاماً فإن ذلك الشخص الذي كان يخشى أن يمسخ وجهه وجه حمار هو أنا، وقد تصرمت هذه السنوات الطوال من دون أي تطورات، ولهذا فإنني أحمد الله على حُسن خَلقه.. للحديث بقية.
|