“جمال التخَيُّل، لا ينقذ الفكرة”. هذه عبارة قالها خبير روسي أثناء حوار تلفزيوني، تعليقاً على حقيقة إن كانت هناك حكومة خفية تدير العالم، وتحتل بؤرته الولايات المتحدة الأميركية، حيث تمثل المؤسسات المالية الكبرى والتكتلات السياسية والاقتصادية أذرع هذه الحكومة.
يشير هذا الخبير الاقتصادي بذكاء إلى أن العالم أكثر تعقيداً مما نتصور، ولكنه أسهل من أن يكون غامضاً وغير مفهوم إلى حد يحملنا على الجزم بأن الحكومات والمجتمعات ليست إلا أدوات طيعة تقاد إلى حيث تكون مصالح هذه الحكومة الخفية،
لأن الشيء نفسه يمكن أن يصدق على دول كبرى تضررت كثيراً من الأزمة الاقتصادية وتعيش هي الأخرى اضطرابات واحتجاجات وتواجه مشاكل كبيرة وبطالة وانهياراً لمؤسساتها المالية، كما أنها منيت بخسائر فادحة أثرت على استقرارها وسلمها الاجتماعي. وهنا قد نكون أمام تفسير آخر أكثر تعقيداً، وهو أن هذه الكوارث والأزمات سبق التخطيط لها، وأن من يدير العالم أفراد ومجموعات، لها مصالح أكبر وفوائد أكثر من خسائرها التي تمْنى بها.
إن أسهل شرح لما نعيشه من ظواهر إنسانية اقتصادية وسياسية هو أقربها إلى الواقع، فما يعانيه لبنان منذ أربعة عقود سببه الرئيس الطائفية، وما يعانيه اليمن يعود في جذوره إلى سيطرة القبلية، كما يمكننا أن نتنبأ بأن مستقبلاً قاتماً ينتظر ليبيا بسبب سيطرة التنظيمات المسلحة وعجز الحكومة عن حل لها. كما أننا نعلم أن باكستان التي تكاد تقتلها الغيرة من جارتها الهند، تنبع أزماتها من خليط من الفساد العميق والتطرف وفشل الدولة.
إن أي حدث عادي وعابر وغير ذي بال حينما نضفي عليه هالة من الغموض ونسبغ عليه تفسيراً معقداً، ونجعله فصلاً من قصة وجزءاً من أحجية أكبر منا، فإنه سيكون أكثر إثارة وجذباً. وهذا هو معنى “جمال التخيُّل”. فنحن حينما نهرع إلى صوت في الخارج، ونكتشف أنه ناتج عن ارتطام سيارة بسياج حديقة الحي لأن السائق كان مخموراً، فإن ربط كل ذلك بأن القصد من هذه الواقعة هو إلهاؤنا عن حقيقة ما يحصل في بيت جارنا الذي يبعد عنا ميلين، لن “ينقذ الفكرة”. فكل ذلك لن يفيد سكان الحارة ولا السياج المدمر ولن يردع السائق الذي أكدت الفحوص أنه كان تحت تأثير الكحول، فعليه أن يعتذرعن إزعاجه ويتحمل عقابه ويتكفل بإصلاح ما أتلفه. ربما حينها يمكننا أن نسترخي ونستمع إلى كل التفسيرات الأخرى. المهم أنه أخذ عقابه وسياج الحديقة تم إصلاحه والحكومة اقتصت منه.
كما هو شأن كل مشروع صغير أو كبير دولة أو مطعم شاورما، مدرسة أو شركة عابرة للقارات، فإن التخطيط الجيد وحسن التوقيت ومعرفة وجوه الخلل وعوامل النجاح ومواجهة الأزمات بعد تشخيص أسبابها والاعتراف بالفشل، هي الإجراءات الطبيعية. يبقى بعدها دائماً حيز واحتمال للأعداء الكبار والصغار الذين ربما يقضون الليل والنهار يخططون لتدميرنا، ولكنْ حتى الأعداء والحاسدون لديهم مصالح يمكننا أن نتبادلها معهم، ومطامح يمكننا أن نتشاركها معهم، وأهداف قد نقاسمهم إياها.
لم يكن للبشرية أن تتطور مجتمعاتها الصغيرة والكبيرة وتتقدم وتزدهر فيها دول صغرى لا تزيد مساحة بعضها عن مئات الكيلو مترات لو أنه كان عالماً من المؤامرات والسحر والأعداء الظاهرين والأخفياء. كما أنه يمكننا فهم التاريخ أيضاً على أنه قصة كبيرة من السيرورة نسجت خيوطها أحداث صغيرة ووقائع عابرة قد تولد سلسلة متتابعة من النتائج والتطورات المتتالية، التي يفوق حجمها بمراحل حدثَ البداية، وبشكل قد لا يتوقعه أحد، وفى أماكن أبعد ما تكون عن التوقع، وهو ما يعبر عنه بـ”الشواش”، أو “تأثير الفراشة”.
|