منصور النقيدان
أنا مدين لقرائي بتوضيح مسألة في مقالي السابق ”حب على مرأى من النبي”، فقد كنت عزمت على كتابة هذه التوضيحات ضمن تعليقات القراء، في موقع الصحيفة على الإنترنت، ولكنني سوفت وتكاسلت حتى دهمني الوقت، وها أنا أكتبها مقالاً.
سأقتصر بالتعليق على الفقرة الأخيرة التي ختمت بها مقالي وهي
”أن القبلة والخلوة بين المحبين هي من اللمم التي لا يعاقب الله عليه”، لأنني أظنها أكثر الفقرات استفزازاً وأكثرها إرباكاً للقراء.
إن تحديد الذنوب الكبيرة من الذنوب وضابطها، وتمييزها عن صغائر الذنوب، كانت مجال بحث وأخذ ورد بين الفقهاء والمتكلمين الذين خصصوا هذه الأبحاث في مباحث الإيمان ومسمياته ومكملاته منذ القدم. وبما أنني انزلقت وتورطت في مقالي السابق بإثارة موضوع لا تجده إلا في بطون كتب العقائد، فأنا مجبر اليوم للإيغال ولو لمرة واحدة في الحديث ضمن هذا السياق، وهو رغم ثقله على نفسي إلا أنه بالغ الأهمية، لأن تلك الأبحاث هي التي صاغت عبر قرون مفهومنا للدين والحلال والحرام، واليوم نحن نعيش بهذه العقلية ونستقبل بها العالم من حولنا، ونتعاطى معه بها وعلى ضوئها. وأعتذر لبعض قرائي الكرام الذين كتبوا ملاحظاتهم في موقع الجريدة إذا كنت أتناول هذه المسائل من منظور أهل السنة وضمن تراثهم، فأنا اعتمدت صحة المرويات التي سردتها ضمن قواعد أهل الحديث، فأنا قرأت الشريعة ودرستها على علماء السنة السلفيين، وسيكون اعتمادي عليها متقمصاً في مقالي هذا عقلية الفقيه ومشلح الشيخ.
الذين قاموا بحصر عددي للمخالفات التي جاء وصفها نصاً بأنها من الكبائر لم يتحصل لهم أكثر من ثلاث عشرة مخالفة، وقد اعتمدوا في إحصائها على ماورد في الأحاديث المروية سواء منها ماروي في ”البخاري” و”مسلم” أوفي غيرهما، وهذه كانت الطريقة التي يميل إليها أهل الحديث والأثر مفضلين التوقيف[1] في أوصاف ومسميات الإيمان، معتبرينه هو أسلم الطرق، واعتمد آخرون ضوابط أخرى وطريقة أكثر خطورة، ملاحظين أن معظم الكبائر التي حذر منها الرسول ونص عليها بالاسم بأوصاف مقاربة مثل الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم. لاحظوا أن الشريعة ترتب على تلك الأفعال إما عقوبة دنيوية منصوصاً عليها مثل الحدود، وإما أن يترتب عليها عقوبات أخروية مغلظة كالتعذيب بالنار مثل عقوق الوالدين، وإما أن يوصف صاحبها بعدم الإيمان أو الإسلام أو أن يترتب على فعلته غضب الله ولعنه ومقته. وفوق ذلك فإن كل الذنوب يكفرها العمرة إلى العمرة ورمضان إلى رمضان، والصلاة إلى الصلاة، إلا الكبائر لأنها تحتاج إلى توبة ولأنها غالباً متعلقة بحقوق الآخرين [2] فاعتمدت هذه المدرسة [3] قياس ما لم يسمَّ كبيرة على ما ورد وصفه بها باعتبار الجامع بينها في المآلات دنيوياً وأخروياً. وهكذا انداحت لها طرق واسعة لترشيح وإلحاق كثير من الأفعال والسلوكيات ضمن أعظم الكبائر.
ومن ثمار الجدل الكبير الذي نشأ في عصر مبكر في الإسلام حول الإيمان والكفر والإرجاء وهل العمل من مكملات الإيمان أو من ماهيته، وهل يزول أصل الإيمان بفعل أوترك [4] أو يزول فقط كماله الواجب أو المستحب، تسربت نزعة خارجية [5] لدى بعض من أهل الحديث والأثر الذين لم تتبلور مدرستهم إلا بعد وفاة أحمد بن حنبل بفترة طويلة، وهذه تجلت في إعادة ترتيب وتوصيف بعض الأفعال والتروك[6]، حيث ألحقت سلوكيات كانت في عداد العادات والأزياء ضمن المخالفات الشرعية فاكتسبت صفة الذنب، ثم رقيت مرتبة أخرى ليتم إقحامها مرة أخرى ضمن حدود المحرمات والكبائر. ومع أنني ذكرت سابقاً أن القبلة بين المحبوبين لا تعدو أن تكون من الصغائر، فأنا اليوم أذكر مثالاً آخر.
ربما أن بعضكم استمعوا مرة لأحاديث القصاص والخطباء الذين يخوضون في فلسفة التوبة والأوبة إلى الله، أو كانت لأحدكم قراءة خاطفة في بعض الكتب التي ألفت في الكبائر. ربما أنه مر بهم ضابط غريب في معنى الكبيرة، وهو ”أن الصغيرة قد تكون كبيرة مع الإصرار”. بمعنى أن حلق اللحية عندهم كبيرة من الكبائر. كيف؟ مع أن القرآن لم يذكر ذلك والحديث الصحيح عن الرسول لم يدرج حلق اللحية ضمن المحرمات فضلاً عن الكبائر التي تضاهي قتل النفس وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات بالزنا، ولكنهم يعتمدون هذا الشرح: بما أن الرسول أمر بمخالفة الكفار والمشركين، وعدم التشبه بهم في الأزياء والألبسة والعادت، فإن حالق اللحية متشبه بغير المسلمين الذين يحلقون لحاهم. حسناَ. وبما أنه قال ”من تشبه بغيرنا فليس منا [7]” أي نحن المسلمين، فإن هذا النفي لمن تشبه بغير المسلمين دليل على أنه من الكبائر، وهذا مثل قوله ”من غشنا فليس منا”، وآخرون اعتمدوا طريقة أخرى لا تختلف في خطورتها عن الأولى، فبما أنه قد تقرر عندهم بأن حلق اللحية مخالفة لرغبة الرسول، ولكن لم يترتب عليها عقوبة دنيوية ولا وعيد أخروي بالعذاب، وبالتالي فهي صغيرة لأعقاب عليها من عند الله، لكنهم اعتمدوا ضابطاً مخيفاً وهو أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة””7 كيف؟ يوضحون لك بأن إصرار المسلم صبيحة كل يوم على محاربة ظهور أي شعرة على وجهه، ومداومته على اجتثاث كل بصيلة تطمح إلى الظهور، هو معاندة وإيغال في مخالفة الرسول الذي أمر بإعفائها. صحيح أنهم يقرون بأن دلو ماء سكب على دلو ماء آخر لا يخرجه عن وصف الماء إلا أنه ماء أكثر، ولكنهم يقولون لا. إن الإصرار على مخالفة ما يحبه الرسول يقسي القلب ويجعله كالكأس المقلوب لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ومع مداومة ذلك يصبح القلب مطموساً فلايميز خيراً من شر ولا سنة من بدعة، ويكون الأمر أعظم حينما يكره المسلم اللحية وظهورها فيكون حينها نفاقاً أكبر ويصبح المسلم كافراً لأنه كره ما أنزل الله على رسوله. أرأيتم؟
لهذا هم يفترضون في المسلم أن يكون قصاراه في حلقه للحيته صاحب كبيرة، شريطة أن يصاحب حلاقته لذقنه إحساس نابع من قلبه بالتقدير لتلك الشعيرات المحلوقة، وحب مفعم لها والندم على كنسها، وهنا قد تعود الفعلة إلى مرتبتها الحقيقية أي تكون صغيرة، أما إذا تلذذ بحلقها معتقداً أن حلقها أجمل من توفيرها، فتلك طامة كبرى قد تخرجه من الدين.
هذا الذي أحكيه ليس أحاجي وليس هزءاً من القول، وجذور هذه النزعة الخارجية ”جعل الصغائر كبائر” والتكفير بالذنوب” التي صاغت العقلية السلفية الحديثة قلما يتنبه لها الباحثون. صحيح أن هناك تشنيعاً من خصومهم بنبزهم بالخارجية، ولكن الأبحاث التي تتبع كيف استقر في أذهان كثير من الناس ذلك الانزياح والإبدال في مراتب الأفعال في الإيمان هي شبه معدومة. إن الشاب حينما جاء إلى الرسول وشرح له وضعه مع المرأة وقال له ”أصليت معنا؟ قال نعم.. قال قد غفر لك” والصلاة كما سبق وتقرر لا تكفر إلا الصغائر، كما أن مكاثرة الحسنات تكفر الصغائر من السيئات، ولهذا ذكر المفسرون قصة الشاب في سبب نزول آية هود ”إن الحسنات يذهبن السيئات”. وهذا بيت القصيد.
[2] وردت أحاديث بذلك كثيرة.
[3] منهم ابن تيمية.انظر ”الإيمان”،وشروح حديث ”ألا أخبركم بأكبر الكبائر” فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، وتيسير العزيز الحميد. و”الكبائر” للذهبي، و”الزواجر” للهيتمي.
[4] فعل: مثل السرقة، وترك: مثل ترك الصلاة.
[5] نسبة إلى الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ويجعلون بعض المباحات محرمات.
[6] رواه أهل السنن.
[7] في فتوى بخط اليد سئل الشيخ حمود التويجري”ت ”1992 عام 1989 عن السبب في تفسيق حالق اللحية وهي من الصغائر.فأجاب بما هو مذكور أعلاه