لقد جاء إلى هذه الدنيا بأناقة، منسابًا في هذه الحياة كقطرة ماء، وعاش كل فصول حياته، ورحل بأناقة حين دعاه داعي الحقيقة، ناموس الكون الأعظم.
مرت به ركائب الراحلين، وهو واقف على قارعة الطريق، ينتظر، وما كنا على علمٍ أنه ونحن هجوع، قد جمع رحله، وتهيأ لمرور الركب، وأصغى لنداء الخلود، فما هي إلا كلمح بالبصر.
رحم الله عبدالله.
آه يا قلبي!
عن الحب والفقد والتخلي
عن تأبين إنسان رحل
أنا منهك بقصص الفراق والهجران، وقروح الغربة، وسهاد الليالي، وآلام الرحيل.
وشيجتنا بالأم والابن والأخت والأخ، وعلاقتنا بالصديق والحبيب، مشدودة بخيطٍ موصولٍ بشبحٍ يخيم عليها كل يوم، وناقوسٍ يدق صباح مساء، يصيح في روع كل واحد منا:
أحبب من شئت فإنك مفارقه. أنت لا تملك، وهو لا يملك، أنت عابر، وهو عابر، كلاكما عابران، لا خِلّة تدوم، ولا هوى إلا وهو زائل، تهيأ للفراق، وكن على أهبة السفر. لا قرار لك هنا، ولا راحة بال. أنت طارئ، وكل ما هو في قبضة يدك زائف، حقيقتك في مكانٍ آخر، مرابعك في نقطةٍ قصية من هذا الكون، هي في ذرة من حلمٍ يخايلك منذ وعيْت، وفي لبها كل الحقيقة.
ارتحل وأدلج، فمن خاف أدلج.
هل سيكون الشعور المستدام بـ”التخلي” دواءً أم علة ومرضًا يسبغ على حياتنا غشاءً من الأسى والقتامة؟
تكاد تكون حياتي مواسم من القرب والبعد والهجران والوصل، فكم من حبيبٍ خسرته، وخليلٍ فرّ من بين يدي، وكم من رفيق دربٍ فُجعت برحيله.
اليوم فجرًا، فارقني إنسانٌ قريب إلى قلبي.
لقد مات أخي عبدالله.
مضى عن أربعة وستين عامًا.
رحل فجأة!
وكنت أظنه – وأنا الأصغر – سيعيش من بعدي عقودًا، وأنني أنا من سيرحل قبله.
عشتُ سنواتي الثلاثين الأولى متمردًا، عنيدًا، عابثًا، راقصًا بين فكي الأسد.
عشت على التخوم، وقاربت الموت مرارًا، ونجوتُ مرة من الإعدام، وكنت أرى مصيري قاب قوسين أو أدنى.
وكان عبدالله هو النقيض لي تمامًا.
حتى اللحظة هذه، وأنا هادئ أو صامت واجم، ولكن شيئًا ما يثقل على أنفاسي، يضغط على نبضات قلبي.
بعد أن بلغني خبر غيابه عن دنيانا فجرًا، كنت في ذروة بصيرتي، في كامل وعيي، كنت متماسكًا، لم يكن لوقع الخبر أي وجيب ولا ارتطام، إنما كحجرٍ أُلقي في هوةٍ سحيقة لا قرار لها.
وبعدها بدقائق، ضحكت، ومزحت، وشاهدت فيلمًا، وواسيت، وعزيت ستة من الأحباب، وقلت أجمل الكلام، ونثرت أعذب تأبين.
كنت راضيًا عن نفسي، معجبًا بأدائي.
وحين كان طيفه يتراءى لي مراتٍ أربع، لدقائق خلوتُ فيها إلى نفسي، كنت أبتسم، في شعور من الدهشة، والتوجس، والرضا، وشعور غريب وكأنني واقف على قارعة طريقٍ أنتظر مرور القافلة حين يكون الجميع قد ارتحلوا.
أصبح عبدالله الآن في عداد الراحلين، الذين شهدوا على ولادتي.
أحاطني برعايته وحبه، وأغدق عليّ طفلًا أجمل ما يجود به أخ.
لا يزال يتراءى لي، وشيءٌ ما لا يزال قابضًا على قلبي.
لقد رحل!
وحين بلغني صباحًا، بعد صلاة العيد، خبر رحيله فجأة، قلت لنفسي: آه، فعلها!
كم هو محظوظ!
لقد أنجز كل شيء!
أتمّ واجباته، وأدّى ما عليه، ثم أخذ أغراض سفره ورحل.
لطالما سمعت بقصص أولئك الذين يرحلون في السحر، غيابٌ لا رجعة منه، بعدما يكونون قد أتموا كل شيء وأدوا الرسالة.
رحل بلا عداوات ولا أحقاد، محبوبًا، عاش في الظل، بلا صخبٍ ولا ضجيج، كان خفيفًا على الناس، منكفئًا على بيته وعائلته، معظم وقته بين نخله والسواقي،
كان مسلمًا صالحًا، وأبًا صالحًا، وزوجًا صالحًا. وكان مواطنًا صالحًا.
رحل عبدالله في أجمل الأوقات، وأكثرها بركة، وكانت نهاية حياته لائقة به.
تألم قلبه لدقائق، حملوه سريعًا، وفاضت روحه مع دخوله المستشفى.
نهاية حياةٍ سلسةٍ رقراقة.
انسابت مهجته بكل أناقة نحو دار الخلود، كانت يد المنون حنونة، ومن بين أصابعه، تهادت على حين غفلةٍ منه نحو مستقرها، على أجنحة طيورٍ خُضر، بخوافيها وقوادمها، تخفق عجلى بها نحو مستقرها.
من لي بمثل هذه الميتة العزيزة الشريفة!
لقد جاء إلى هذه الدنيا بأناقة، منسابًا في هذه الحياة كقطرة ماء، وعاش كل فصول حياته، ورحل بأناقة حين دعاه داعي الحقيقة، ناموس الكون الأعظم.
مرت به ركائب الراحلين، وهو واقف على قارعة الطريق، ينتظر، وما كنا على علمٍ أنه ونحن هجوع، قد جمع رحله، وتهيأ لمرور الركب، وأصغى لنداء الخلود، فما هي إلا كلمح بالبصر.
رحم الله عبدالله.
آه يا قلبي!
آه من رحيلك!
يا نار قلبي وأين قلبي أو
يا كبدي لو كان لي كبدُ
يوم عيد الأضحى 1444 هـ،
28 يونيو 2023

الصورة 1971 أنا الأول على اليمين وأخي لأمي عبدالله واقف خلفي.