منذ نعومة أظافرنا وحتى بلوغنا أشدنا، نقرأ ونسمع عن مئات القصص التي تكشف عن حقيقة الحياة والموت، وتجلي الوجه الآخر لكل من السعادة والأسى، والرفاه والفاقة، والصحة والسقم. في كثير من تلك الحكايا نرى دائماً كيف تكون خواتيم السوء للطغاة، ومصارع السوء للأشرار الذين يعيشون على دماء الآخرين ودموعهم وفتات رزقهم. وفي بعض تلك القصص نرى المستهترين بالآداب، والمنحرفين عن الأخلاق، ومن يشذون عن العادات المتبعة الراسخة ، والمتمردين على ناموس الجماعة متعثرين في حياتهم، أشقياء بنجاحاتهم، لايغني عنهم تفوقهم في الحياة وتفردهم في مواهبهم وتحقيقهم لذواتهم شيئا.
غالباً نربط كل تلك المثلات والعبر بالنهاية، وهي الموت ومايحيط به ويعقبه من تغيرات مادية وجسدية لكن الموت والعدم هما الوجه الآخر للحياة، فهما مصير كل حي من إنسان وحيوان ونبات..
إن التخويف بالموت هو شبيه بمن يذكرك بأنك اليوم في يفاعك وسوف تكبر شاباً فتكتمل رجلاً ثم تنضج كهلاً وتؤول بعد ذلك إلى أرذل العمر، فعليك أن تكون حذراً!، ليس من الهين أن يتخيل الواحد منا تلك اللحظات التي يغادر فيها هذا العالم، وأن يتخيل مايليها، حين لايأتي ذكره على لسان زوجته وأبنائه إلا مرة كل عامين أو عشر سنوات، حتى يُنسى ذكره إلى الأبد بعد عقدين أو ثلاثة ، ولكن هذا جزء من حكمة وسر وجودنا وغموضه وأحجيته المخيفة.
قد يكون من الخلل في تربيتنا منذ الصغر ، وقصور في الحكمة من آبائنا وأمهاتنا ألا يلفتوا انتباهنا إلى هذا الناموس الكوني الراسخ الذي تخضع له كل الكائنات ويتجلى في نفوق الناقة، وتلف النملة، وهلاك البعير، وموت النجم المحبوب، وذبول النبتة، ورحيل الجيران في حادث على الطريق، وفي موت العجوز الغريب الذي يسكن بيتاً خرباً في آخر الحي.أليس إثماً وكبراً في نفوسنا أن ننأى بجنسنا نحن البشر عن الوقوف على سر هذا الكون والحبل السري الذي يصلنا بكل أقاربنا من كل ما حولنا، بالحيوان والنبات والأرض والدواب والطير، ذلك الرباط الذي يجعل منا وحدة متكاملة منسجمة في علاقة متشابكة ومعقدة بين كل هذه الكائنات؟
يقول العلماء إن مابين خمسين ومئة ألف نوع من المخلوقات تنقرض كل عام ، ويقولون إنه خلال مئة سنة قد يفقد العالم خمسة وخمسين مليوناً من الكائنات. كل يوم يفقد عالمنا مئات الأنواع من الحشرات والحيوانات في البر والبحر، التي لم تعد أجناسها موجودة. في عام 1996، عُقد مؤتمر عن هذه الظاهرة الخطيرة ، وكانت التوقعات أقل بأربع مرات عن التقارير التي صدرت أول هذا العام 2010.
تعني هذه الأخبار المحزنة أنه سيأتي علينا زمان نقول فيه”نعم .نعم .أتذكر هذا الحيوان وتلك الحشرة. كنت قد رأيتها في صغري وعبثت بها.ولكنها اليوم لم تعد موجودة”.ويرى العلماء أن انقراض هذه الأنواع بهذه الوتيرة المخيفة سينتج عنه اختلال التوازن في الطبيعة، وسوف يتسبب بظواهر أخرى مخيفة على صحة البشر وغذائهم ومحاصيلهم وحالة البيئة والمناخ.
روي عن الرسول أنه أشار مرة في حديثه لأصحابه إلى أن النجوم أمنة للبشر، أي أمان وسبب في توازن الكون، والعلم يشرح لنا أن بقاء هذه الكائنات من حيوانات وأسماك وحشرات هو أمان لنا، وأن اختفاءها أمارة على اختلاف في نواميس الكون، مؤذن بنهاية وتضعضع هذا الانتظام المدهش.ويقول العلماء إن حوالى عشرة آلاف نوع من الكائنات تعيش في الجزيرة العربية مهددة بالانقراض.
ما أكثر الحكم التي تعلمناها عن النملة في الصبر، والالتزام، والعمل الجماعي، وأخذ المبادرة والحيطة تجنباً للمفاجآت وتقلب الفصول، ولكنني سأحدثكم اليوم عن نوع من النمل الأسود أثير على قلبي، عن دويبة نعرفها في نجد باسم” القعس” أو القعيس، ويقال إن بعض البدو يسمونها “أبو عوف”، ولكن اسمها العلمي هو Cataglyphis fortis “”.
ربما تكون هذه الحشرة الأسيفة قد أدركت مآل حالها ومصير بني جنسها، وتنبأت بالنهاية الكئيبة للكائنات؛ فاختارت أن تكون شاهدة على أفول الحياة بعيداً عن أنفاس البشر، الذين يلقي عليهم العلماء إثم هذا الإفساد العظيم في عالم الطبيعة. لاتحقروا مشاعر الحيوانات والحشرات والدواب، فهي أول من يستشعر الأخطار الكونية من الزلازل والبراكين والعواصف ، ولا تستهينوا بصفاء إدراكها ولطافة حسها، فنحن نعرف قصصاً كثيرة تلِفَتْ فيها أنفسها حزناً على ولدها، أوأسى على عشها، ووجداً على مرابعها، ألم يقل الرسول عن جبل أحد :”إنه يحبنا ونحبه”، ألم يجهش جذع الشجرة بالبكاء حينما استبدله الرسول بالمنبر، ولم يهدأ حتى نزل النبي واحتضنه؟ ألم يأت بعير إلى الرسول يتمسح به ويشكوه قسوة صاحبه؟
لقد تعرفت منذ سنوات عمري المبكرة على “القعس”، فرأيت فيه الجد في الحياة، والسرعة في الإنجاز، والاختصار في المهام، والتسامح واللطافة وخفة الروح. تصرم اليوم أكثر من عقد ولا أكاد أراه إلا لماماً. لقد نشأت والقعس في مرمى بصري حيث اتجهت، أراه في حوش البيت، وفي ملعب كرة القدم، ألمحه في زوايا الدكاكين، وبين البسطات وفي شقوق الأرض، يخطر بين يدي وأنا واقف بين سواري المسجد، وفي أطراف المدينة وفي الصحراء. هل هو من الأنواع المهددة بالرحيل عن عالمنا، ولهذا تتناقص أعداده ولا يكاد يظهر، أم أنه استوحش من كل هذا التحول الهائل في حياة أهل القرى والأرياف والوبر والمدر، وأجفلته ملايين أطنان الإسمنت والمكائن والمحركات العملاقة؟ أم أن انقباضه مرده إلى رهافة في الحس وهشاشة في المشاعر، وصفاء في الطباع فنفر من ازدياد ذنوب البشر، وتضاعف الظلم وانقطاع أواصرهم؟
لقد ربطتني بالقعس علاقة احترام ومودة منذ سنوات الصبا، فقد رعيت وأنا دون العاشرة واحداً من بني جنسه، كان مصاباً ويعاني من اعوجاج في إحدى ساقيه، كنت سبب أحزانه ذلك اليوم، ولكنني تحملت مسؤوليتي وفتحت له قلبي وطببته، وبقيت قريباً منه معظم ساعات النهار، يومها عرف كل من في البيت بقصة ضيفي الذي ألزمني البيت، وحين تماثل القعس للشفاء وأبل من سقمه، وشعرت بالرضا وأنا أراه يتحامل على نفسه، وقفت أرمقه وهو يمضي في سبيله حتى اختفى. وكعادته دائماً، كان أكبر من أن ينشغل بالسفاسف، أو يتماوت في مشيته، أو ينخرط في شجارجانبي مع صعاليك الدواب والطفيليين والأوغاد من الحشرات.
كان القعس دائماً رشيق الهيكل نظيف المغابن خفيف الحاذ، وإذا ألجأته الحاجة – كما يقول العلماء – لطلب الرزق في الهاجرة وحرارة الشمس فوق الخمسين درجة، يسلك أخصر الطرق إلى مخبئه. لم أر في سالف العهد قافلة من القعوس أو مجاميع منها تمضي في قوافل متماسكة أو جماعات متفرقة.كان على الدوام وحيداً في مواجهة الطبيعة، ومثل هذه السجية تجعل من الحيوان والحشرة والإنسان أكثر اعتماداً على ذاته وجهده.
يقول الراغب الأصفهاني “إن التفرد يبطل الإنسانية”، ولم يكن أحد يوماً أكثر جدارة بهذا الوصف من القعس ؛ لأنه كان حشرة حقيقية. فهل لهذه الدويبة من خلف أو عنها من عوض؟
20/6/2010