يقال إن عالم الاقتصاد الأسكتلندي آدم سميث كان يلجأ إلى إخفاء لكنته في الفترة التي قضاها في جامعة أكسفورد في إنجلترا. عانى سميث من بعض التمييز بين طاقم التدريس في الكلية التي درس فيها، وبعد سبع سنوات عاد أدراجه إلى مسقط رأسه في جامعة غلاسكو، وقد وصف صاحب “ثروة الأمم” زملاءه في أكسفورد بأنهم كانوا كسالى ولا شأن لهم بالتدريس. تنقل سميث بعدها معظم حياته بين وظائف متعددة، كان منها وظيفة حكومية تتعارض مع فلسفته في تحرير التجارة.
لم يكن سميث هو الوحيد من الأسكتلنديين الذين عمدوا إلى إخفاء لكنتهم، حين طمحوا إلى شق طريقهم بين نخبة المجتمع الإنجليزي، كما تذكر غيرترود هيملفارب في كتابها (الطريق إلى الحداثة). كان سميث كبير الأنف جاحظ العينين ممدود الشفتين، لهذا تحاشى طوال عمره أن يجلس لأخذ رسم له، وكان يصرح في رسائله بأنه جميل في شيء واحد فقط هو كتبه التي ألفها، والتي كان لها تأثير عظيم في عالم الاقتصاد، لهذا فإن الصور الموجودة له اليوم مأخوذة من المخيلة.
عاش الأسكتلنديون قروناً وعلاقتهم مع إنجلترا بين شد وجذب، بين التبعية والتمرد والثورات. تتمتع أسكتلندا بحكم ذاتي، وهي لاتزال حتى اليوم تفخر بثوارها العظام، وتكرِّمهم وتقيم لهم النصب والصلوات، ومنهم ثائر قام عام 1938 بمحاولة فاشلة لاغتيال ملك بريطانيا.
ويواجه كثير من النابهين القادمين من أوساط اجتماعية مهمشة، أو من مناطق أقل حظوة الوضع نفسه، حينما يطمحون إلى الاندماج في الفئات الاجتماعية النافذة ، وينتج عن هذا الطموح محاكاتهم للكنة تميزهم وتسمح لهم بالتسلل إلى الدوائر المغلقة على فئات محددة ، أو ادعاؤهم الانتساب إلى قبيلة معينة، أو إخفاء الجهات التي قدموا منها. كانت هذه الميول أكثر لفتاً للانتباه في تسعينيات القرن الماضي، حيث برزت أسماء على الساحة الإسلامية – قادمة من وسط اجتماعي مهمش -من إيجاد مكان لها بين صفوة العلماء والدعاة، والخطباء المشاهير. كان ذلك كسراً لاحتكار دام عقوداً، ولكنه كان يحتاج إلى متطلبات الوجاهة والاعتراف.
ففي الفترة التي اشتدت فيها الصراعات بين السلفية الألبانية والإسلام الحركي، كانت السلفية الألبانية مظلة تجمع أشتاتاً من فئات وشرائح اجتماعية متعددة، وكانت تبدو أحياناً تعبيراً عن احتجاج على الأثرة أكثر منها حماسة دينية نابعة من قناعات حقيقية، ولكنها كانت عند البعض مزيجاً من مشاعر مزدوجة، كان البعض منهم يعمد إلى تغيير لكنته أو إخفاء مسقط رأسه أو حتى إسقاط اسم قبيلته والاكتفاء باسم أحد أجداده مسبوقاً ب(ال) التعريف، وهذا ليس قاصراً على المتدينين، بل نجده حتى بين الليبراليين، فقد ينتهي اجتماع بشتائم متبادلة واشتباك بالأيدي لمجرد توهم الإساءة عند سؤال أحدهم عن قبيلته أو منطقته التي نشأ فيها.
كان شاعر المسلمين الأكبر في الهند محمد إقبال يتغنى في قصائده بأنه أعجمي الدَّنِّ لكن خمرتَه صنعُ الحجاز، وأنه هندي النغمِ واللحنِ ولكن صوتَه من عدنانِ. ومع أن بعضاً من العلماء والأدباء والشعراء من مسلمي المشرق أو مسلمي المغرب وأفريقيا الذين يزخر بهم تاريخ الحضارة الإسلامية، كانوا يؤكدون صلة نسبهم بعرب الجزيرة، إلا أن الغالبية العظمى منهم وهم الذين كان لهم التأثير الأعظم في تشييد علوم الإسلام وتشكيل حضارته لم يكونوا يخجلون من أصولهم أو يستحيون من جذورهم غير العربية. توضح دواوين الأدب والتراجم كيف بقي الفرس الذين اعتنقوا الإسلام فخورين بأصولهم. صحيح أنهم اضطروا فترة هيمنة الأمويين إلى إخفاء مشاعرهم المتعالية من العرب والتي رصدها الجاحظ في كتبه ورسائله، والتي بدأت بالظهور مع العباسيين منذ تولى المعتصم الخلافة، وبلغت ذروتها في القرن الرابع الهجري، وبعد انحسار نفوذ العرب عادت الروح الفارسية الوثابة إلى الظهور، وطغت على شعرائها وأدبائها العظام.
اليوم نلحظ انحسار نكهة التسامح والانفتاح التي ميزت بعض المناطق والحواضر في الجزيرة العربية، في السعودية وغيرها، وهي نابعة من ضمور الاعتداد بالتنوع العرقي والإثني والثقافي الذي كان له تجلياته في العادات والتقاليد العريقة التي تمتد لقرون مشكلة مزيجاً ساحراً في الأزياء واللباس والموقف من المرأة ونمط التدين، وفي بعض المناطق الداخلية أقنعت كثير من العوائل – التي قدمت مهاجرة من خارج الجزيرة العربية – أنفسَها بخرافة لاحقيقة لها، وهي أن سبب ضياع أنسابها نابع من أن أول مستوطن من أجدادها كان مطلوباً بجرم: سرقة، أو قتل، أو خيانة، فاضطر للفرار مخفياً أصله ونسبه.
في فبراير 2003 نشر جمال خاشقجي مقالة في جريدة المدينة انتقد فيها دعوة بكر أبوزيد – وهو عضو هيئة كبار العلماء – إلى تجنب الزواج من مسلمة لا تنتمي إلى قبيلة عربية، وفي 13 أغسطس 2009 نشر أشرف فقيه وهو أستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، مقالة فريدة في مدونته حول مايعنيه ان تكون غير عربي، كانت المقالة حواراً ذاتياً طرح هو أسئلته وأجاب عنها، شرح فيه بالتفصيل كيف ينظر حضر الحجاز في مكة والمدينة إلى أنفسهم وإلى غيرهم من أبناء القبائل، وهذا النوع من الكتابة نادر للغاية، لأنه يحتاج إلى ثقة كبيرة بالذات وصدق مع النفس وشجاعة أدبية.
يشير أشرف فقيه في ختام حواره الذاتي إلى فشل النظرية الاجتماعية الإسلامية، التي لم تتمكن من اقتحام هذا المجال بروح متعالية عن الانتماءات والحساسيات الضيقة. قد تكون الدراسة الفريدة التي قامت بها ثريا التركي ، وبكر باقادر عن (جدة أم الرخا والشدة)، أهم دراسة منشورة حتى اليوم، وقد استغرقت أربع سنوات من العمل الدؤوب، وهي تكشف بجلاء عن التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في مدينة جدة منذ أربعة عقود، وربما تحوي بعض صفحاتها بعضاً من الإجابة عن بعض ما أثاره هذا المقال.
وإذا كانت الحضارة الإسلامية نتاج نخبة العقول من أعراق وقوميات وإثنيات متعددة، فإنه ليس غريباً أن تكون الدولة السعودية الثالثة قد نهضت بفضل نخبة من العقول العربية التي كان الملك عبدالعزيز يفخر بها.
23/5/2010