قبل عشر سنوات فقدت صديقاً كان مفعماً بحب الحياة والعمل الدؤوب، كان يومه مزدحما لا يكاد يجد فراغاً في وقته، كان يعمل في ثلاث وظائف ليعيش حياة كريمة مع زوجته وابنته الرضيع، ولأنه كان حراً نمت في داخله بذرة شك في التعاليم التي حُقنَ بها منذ طفولته، فاكتسب مع الوقت عقلا مستقلا ومتسائلاً، كتب مذكرة من خمس عشرة ورقة ناقش فيها بعض المسائل الدينية، وقبل نشرها لقي حتفه مع طفلته في حادث سيارة، في ليلة شاتية مطيرة وهو عائد من العمرة، صلينا ذلك اليوم صلاتين في النهار، صلاة عيد الفطر والصلاة على روحه.
قديما قام شاعر عراقي يسمَّى ابن زريق بالرحيل من بغداد بحثاً عن الثراء وفراراً من لوم زوجته بعد أن ضيع ثروته، وغرق في الديون، وعضه الفقر، وخمل ذكره، وبعد أن طوى آلاف الأميال، ووصل أقصى بلاد المغرب، حط منتهى غايته في الأندلس، وذات يوم انكشفت له حقيقة مسعاه، فقد كان يطارد خيط دخان، ويتبع سراباً كان يخادعه، وحلماً أكبر من أن يناله، يدرك ومع تضاعف حسرته وخيبة أمله فاضت روحه غريباً فقيراً مريضاً مكسور القلب بائساً، وفي يوم وفاته لخص قصة حياته في قصيدة دسَّها تحت وسادته قبل إغفاءته الأخيرة، وبقيت هذه الرائعة الحزينة واحدة من أرق وأعظم ما أنتجه شعراء العربية، في منزلة تسامي قصيدة مالك بن الريب التي رثى بها نفسه، وتطاول ما كتبه أبو الحسن التهامي عن ولده الذي اعتبطه الموت مراهقاً.
عرفت أثناء عملي في جريدة الوطن مراهقاً كان قد تخرج لتوه من المعهد العلمي بأبها، كان يطمح إلى أن يكون شيئاَ له صلة بالأدب بالفكر، بشيءٍ من هذا القبيل. في السنوات الماضية تراسلنا قليلا، كان يتوثب طموحاً، يسعى إلى النجومية يبحث عن مفخرة، غاب دهراً فالتهم عشرات الكتب وقرأ في كل شيء، وبعد فاجعة حدثت له، غرق في دراسته وعاش حالة إنكار سنوات ثقيلة ولزم الصمت، كان قد عاش قصة حب مع صبية لم يقابلها إلا في ساحات المسجد الحرم، وحينما اجتاز بهما رجل الحسبة ارتبكت فوقعت بين أيديهم، وبعد ساعة اقتيد إلى الساحة وبعد أن تأمل سحنات الجمهور اطمأن بأن لا أحد يعرفه، فمعظمهم أفارقة ومعتمرون من خارج البلاد، أغمض عينيه واستسلم للخيزرانة، وقبل نهاية الوليمة لمح بين المتفرجين ثلاثة يتوارون عن مرآه، كانوا ثلاثة من أبناء عماته الثلاث.دفن كل ذلك في أعماقه وقبل شهر شغلت الصحافة بآراء رئيس هيئات مكة حول الحجاب والاختلاط، فاستيقظت الآلام القديمة لدى صاحبي، اليوم محمدٌ غاضب مكسور ومهان.
في العمارة التي أسكنها سيدة تلهج بذكر جدها تتحدث كثيرا عنه بين زميلاتها، تتزين بذكره وتترحم على روحه، إنها فخورة لأن عائلتها تحتفظ بصندوق يحوي مراسلاته.أصبحت ذكرى جدها تعويضا لها عن فقرها وغربتها وضعف حالتها. كل ما يحفظه التاريخ عن جدها أنه عوقب لقاء إهماله الذي تسبب بتلف المخازن في جدة فجاءت الأوامر بنقله بعيداً.
يقال إنه كُتب على قبر فيلسوف يوناني:” البائس الذي عرفه كل الناس ولكنه لم يعرف نفسه”. تربطني صلة بإنسان تنضح روحه بالبياض ويفيض قلبه طمأنينة، لا يلقى أحدا من خلق الله، إلا ويدعو له بالثبات على أي دين كان ومن أي ملة أو مذهب، وقبل أن يفارقك أو ينهي اتصاله يقول لك” إنني أحبك في الله”. كانت الحكومة قد أفرجت عن شيخ أمضى في السجن سنوات، كان منزله يشهد زحاماً كل مساء بسبب القادمين للسلام، داوم صاحبي سبعة أيام متتالية على زيارة الشيخ، فكان كل يوم يقطع عشرين ميلا على سيارته، ليقف ضمن الحشود القادمة، فيقف في الصف نصف ساعة أو تزيد، وكلما وصل إلى شيخه باس رأسه ووضع كفه بين كفيه وضغط عليهما بحرارة وتأثُّر وعبر عن حبه له بكلمات متحشرجة، كان يفعل ذلك على مدى أسبوع حتى تنبه له أحدهم وأمسك بيده وقال له: اجلس بارك الله فيك واترك فرصة للآخرين للسلام فأنت قد شبعت من الشيخ.كان يغيب شهوراً ولا أحد يسأل عنه وقت غيابه، الجميع ينسون رقمه ولا يحتفظون به، كان غريباً بين الناس وقريبا منهم جداً، لم يكن يسمح لأحد ممن يحبهم بنسيانه، ومن يحبهم هم كل أقاربه وكل سكان المدينة، وكل بائعي المساويك والشاورما ومهندسي السيارات الذين يغشونه مرات كثيرة ويستنزفون ماله ويرهقون ميزانيته الضئيلة.
في دولة الإمارات تعيش نخبة من الغرباء من الهند وإندونيسيا وبنغلاديش وباكستان والفلبين وأفغانستان وكوريا الجنوبية، اكتشف الشاعر اللبناني أحمد فرحات نخبة من الآسيويين الذين ينتسبون إلى هذه البلاد، فارتبط بصداقة معهم وانغمس في عوالمهم وهمومهم، بعض منهم ولد في الإمارات ولم يعرف بلداً غيره، تعج أشعارهم بالألم والتأمل في المواقف الهامشية اليومية، والاعتداد بالذات والإحساس الفاجع بالاغتراب، وتنضح بالأسئلة الكبيرة عن الموت ولغز الحياة وكنه الوجود. لكل واحد منهم فلسفته في الحياة، ولأنهم أبناء الشمس التي تغذيهم وتمنحهم دفئها وطاقتها، ولا تمايز بينهم أو تتحيز لجنس منهم دون غيره، فقد نشر كل أعمالهم التي جمعها في كتاب فريد من نوعه هو(تغذية الشمس)، كان فيهم شاعر هندي شاب مترف ومرفه ولكنه كان بائساً، كان مثقلا بالأسئلة الكبيرة يحمل آلامه ويبثها في أشعاره، ذات مرة قرر كومار سينغ إنهاء تلك المأساة، فشنق نفسه في شقته أمام بحيرة الشارقة بعد أن كتب:” أحببت هذه المدينة. وقررت أن أبقى فيها. دخانا خصوصيا. لا يكترث له أحد”.
17/1/2010