في سبتمبر الماضي كنت برفقة زوجتي نسير في شارع الملكة فيكتوريا بلندن وحينما مرت بنا مجموعة من الفتية والإناث ألقى أحدهم شتيمة غير مباشرة وقال بصوت مرتفع :أنا إرهابي. فالتقطت رفيقتي الكلمة ووعتها وبادرت في أجزاء من الثانية برد كان مؤدباً للغاية، قوبل من صاحب الشتيمة بابتسامةً بلهاء جامدة .
كانت المرة الأولى التي أتعرض فيها لنوع من الشتائم سمعت وقرأت عنه كثيراَ في الصحافة ووسائل الإعلام. لكن المثير في الأمر أن مطلق الشتيمة لم يكن إنجليزياً، بل كان من حوض المتوسط.كانوا شباباً يونانيين، بدا أنهم سياح.
إن قصة التسامح في بريطانيا وفي أوروبا هي من فصول تاريخ البشرية المثيرة والجديرة بالقراءة والاعتبار.إن علاقة أوروبا بالإسلام والمسلمين المتواجدين على أراضيها ليست نتاج السنوات التسع الماضية بعد أحداث سبتمبر، بل تعود إلى عقود مرت فيها بمراحل قلقة وتطورات مثيرة للقلق.
يوم الأحد الماضي كان يوسف القرضاوي غاضبا أسفاً تجاه الاستفتاء الذي شارك به السويسريون حول بناء المآذن. استشهد عالم الدين القطري في برنامجه الأسبوعي (الشريعة والحياة) بأشعار من العصر الجاهلي ومن صدر الإسلام تشرح كيف أن العزة والكرامة تدعو إلى المعاملة بالمثل ورفض الهوان وحمل السلاح وسفك الدماء دفاعاً عن الشرف الرفيع.
كانت تصريحات القرضاوي في سنوات مضت حول تشجيع اغتيال المدنيين الإسرائيلين والامريكيين في العراق قد أثارت غضب الحكومة البريطانية وغيرها، ولم يتضح بعد حتى الآن ما إذا كان الشيخ سيقوم لاحقاً بتشجيع المسلمين في سويسرا بالتخلي عن جنسية البلاد التي يعيشون فيها، كما فعل من قبل حينما أفتى بحرمة حصول العراقيين والفلسطينيين على الجنسية الأمريكية والبريطانية.
في مايو عام 1824 قدم بيتهوفن سيمفونيته التاسعة في فيينا. كانت الحركة الرابعة التي خصصها لكورال يصدح بنشيد الفرح والسعادة للشاعر الألماني شيللر أمراً غير مسبوق ومثيراً لجدل لم يتوقف لما يقارب مئة عام لاحقة، وفوق ذلك فإن تلك السيمفونية الخالدة التي تقاضى عليها 42 جنيها وأهداها لملك بروسيا كانت على وشك النسيان مع وفاة مبدعها عام 1827.
كانت تلك الكلمات التي تغنت بالحب والأخوة البشرية والتآلف وتجاوز الأحقاد والانجذاب نحو إله الحب والرحمة ؛ دعوة للتسامح والانتصار على الذات مع بداية قرن تطلعت فيه القوى العظمى في أوروبا إلى استعمار شعوب الشرق. كان نشيد السعادة رسالة سلام في عصر شهد حروباً بين الملكيات والإمبراطوريات وصراعات داخلية وأهلية لم تهدأ إلا بعد مضي140 عاماً من وفاة شيللر، حيث تحولت أوروبا كما يصفها مارك ليونارد في كتابه ( لماذا سيكون القرن 21 قرنا أوروبيا) من حاضنة لتفريخ الحروب العالمية إلى بيئة مولدة للسلام والديمقراطية، ف”بالقانون وجدت أوروبا سلاحها الطوعي لإعادة صياغة العالم”.
تفوقت أوروبا في العقود الستة الأخيرة بشكل كبير على نزواتها، فهي لم ترسخ السلام بين شعوبها وعرقياتها فحسب، بل أصبحت الوجهة المفضلة للطامحين والحالمين واللاجئين من شعوب الشرق مسلمين وعرباً وغيرهم، حتى أولئك الذين لايليق بهم إلا العيش في ظلمات تورا بورا وجدوا في أوروبا الملاذ الآمن والعيش الكريم واحترام حقوق الإنسان.
كان الحكم العنصري السابق في جنوب أفريقيا قد جعل من الحركة الرابعة نشيده الوطني، وكان هتلر النازي مهووساً بنشيد شيللر، إلا أن ذلك هو أشبه بالمقارنة بين حمل صدام حسين للمصحف وهو يقطع الألسن ويسحق الأطراف، وبين احتضان مولانا جلال الدين الرومي للمصحف وهو ينفث حكمته الخالدة في قصيدة الناي، أو حين يتجلى في شفافيته ويدعو كل مؤمن من كل دين ومن كل مذهب ليأتي إليه ويكون رفيق دربه وحبيب قلبه.
اختار الاتحاد الأوروبي الكورال الرابع شعاراً، وهذا له دلالة عميقة على روح الحضارة الغربية التي مثلت في القرون الأربعة الأخيرة ضمير البشرية وروحها الساعية نحو المعرفة واكتشاف ألغاز الكون ومواجهة الذات والسعي الحثيث لتحسين فرص مئات الملايين من بني الإنسان للحصول على حياة كريمة لائقة وصحية. كما نشاهد دائما في الأفلام فلو كان أبناء الأرض سيختارون ممثلاً لهم في مؤتمر للعالَمين وسكان المجرات الأخرى، فمن اللائق أن ينتدبوا واحداً من تلك القارة .
يكفي الإشارة إلى أن أوروبا أوجدت مجتمع المراقبة والانضباط الذي قضى بشكل متدرج على الاستعراض المتعجرف للقوة للأنظمة السياسية، فمجتمع الخوف قد يقمع نزوات الانحراف ولكن تكلفته غالية جداً، لأن الخوف يصنع الكراهية الشديدة والأحقاد، وهذا مايجعل من شعوب دول أوروبا الشرقية والألمان الشرقيين حتى اليوم مسممين بآلام وأحزان تاريخهم البئيس في عهد الحكم الشيوعي.
في القرن الثاني الميلادي كانت التقاليد والديانات والفلسلفات الشرقية تشق طريقها نحو الغرب. نحو روما، عبر خط كان قد مهده الإسكندر المقدوني قبل ذلك بقرنين. تعرضت العاصمة الإمبراطورية لموجة وافدين من شعوب الشرق، أحباش وسوريين ويهود ويونان ومصريين وغيرهم، حتى بلغت الحال بعضو مجلس الشيوخ تاسيتوس أن يصف روما بأنها أصبحت” بالوعة العالم”.
كانت الحياة العائلية لليهود محط إعجاب من قبل الرومان، وكانت الأديرة المسيحية والورع والاحتشام الذي ميزها مثار دهشتهم، ولكن العديد من الوافدين الجدد كانوا قد فسدت أخلاقهم بانسلاخهم عن محيطهم الأصلي وقواعد سلوكهم الأصلية، فاختلاطهم المتكرر بقواعد السلوك الغريبة عنهم نال من انضباطهم الخلقي وبدأ ينخره، يوضح ويل ديورانت أن ذلك التضارب في قواعد السلوك وخضوع الوحدة والحيوية العرقية الرومانية لدوامة من الأجناس والمعتقدات والأغراض والطرق المتنوعة والمتباينة، هما اللذان ساهما في تفكيك أواصر حياة روما الأخلاقية وانحطاطها.كانت الكارثة تكمن في موجات الهجرة التي اجتاحت روما والأراضي الرومانية.
منذ القرن السابع عشر كانت مجتمعات شمال أوروبا وممالكها البروتستانتية ملجأً للإصلاحيين والأحرار منذ القرن السابع عشر. ما أن يضيق الخناق على مفكر أو فيلسوف أو عالم لاهوت متنور إلا وجد فيها الحضن الدافئ، فترعرعت العلوم والمعارف وترسخت الحريات وحقوق الإنسان.
فما الذي حدث اليوم؟
لقد تلوثت أوروبا. وهي اليوم تعيش محنتها مع قيمها وأخلاقياتها ومع روح قوانينها الخلاقة التي ألهمت البشرية. وهذا الواقع يؤكد نواميس التاريخ ودوراته التي تجعلنا اليوم شبه موقنين بأن أوروبا بعد مايقارب من أربعة عقود من اليوم وبتأثير من الشعوب الشرقية ستتحول إلى صورة كاريكاتورية عن ذاتها؛فقبل ما يقارب ألفي سنة كان الرومان يستقدمون الخدم والعبيد من الشرق الذين كان من بينهم يهود ومسيحيون، ولكن لم تمض فترة من الزمن حتى خضعت رقاب السادة لرب العبيد، واخترقتهم العادات والتقاليد والأعياد والطقوس الشرقية.كانت تلك بداية سقوط الحضارة الرومانية وانحطاطها.
13/12/2009