في ستينيات القرن الماضي دعا الملك فيصل بن عبدالعزيز إلى الجهاد في سبيل الله لتحرير فلسطين من الاحتلال اليهودي، وقد تضمنت خطابات الفيصل في اثنتين وعشرين مناسبة مابين خطبة ولقاء تليفزيوني وصحفي ومؤتمر إسلامي تشجيعاً على الجهاد وثناء على المجاهدين الذين شاركوا في تحرير أوطانهم من الاحتلال الأجنبي. دعا الفيصل إلى نبذ الضعف والخور الذي ينهش العرب والمسلمين وأثار حميتهم لتحرير المسجد الأقصى.
وعبر دراستي لأكثر من مائة وعشرين حديثاً للفيصل، لفت انتباهي أمران: الأول أنه عند اجتماعه بزعماء الأقليات المسلمة التي تتعرض لاضطهاد في بلاد غير إسلامية، يدعوهم إلى التكاتف ويحذرهم من الانشقاق أو حمل السلاح، الثاني أن خطاباته مع القوات المسلحة إبان الخلاف السعودي المصري في أزمة اليمن لم تتضمن أي إشارة إلى توظيف الجهاد ضد الإخوة عند الحديث عن حماية الوطن وحراسة حدوده.
نشرت الصحف السعودية قبل حرب أكتوبر 1973 دعوة الحكومة للراغبين في التسجيل في الجهاد والتجنيد لتحرير الأقصى من الاحتلال، وأثار الفيصل العواطف في خطبة شهيرة حينما قال إنه يتمنى ألا يبقى على قيد الحياة يوماً واحداً إن لم يكتب له أن يموت شهيداً في فلسطين، إلا أن تلك الأجواء الحماسية التي ألهبت العالم الإسلامي عموماً والسعوديين على وجه الخصوص لم تسمح بإيجاد أرضية لتشكيل جماعات أو تنظيمات إسلامية جهادية سواء معلنة أو سرية على الأراضي السعودية، كانت الحكومة تواجه تحدياً من نوع آخر ممثلاً في تنظيمات سرية أخرى وتيارات تعتنق الأفكار القومية واليسارية والشيوعية.
إضافة إلى سبب جوهري آخر حال دون تخلق أي تنظيم جهادي، هو أن ترعرع هذا الفكر مشروط بتوافر حزمة من الأفكار العقدية تشكك في حقيقة إسلام الدولة والفلسفة الدينية التي من خلالها تحكم بها البلد عبر مؤسساتها وتسير بها دفة الحكم وتتواصل بها مع العالم الخارجي.
في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي بدا أن مفهوم الجهاد الكلاسيكي المنوط بصلاحيات الإمام ومباركة العلماء في طريقهما للاندثار والانهيار، كانت التحولات السياسية والثقافية تقرض الأسس التي يركن إليها، ويستمد منها نفوذه وسيادته، صبغ ذلك التحول أفكار الصحوة الإسلامية وبلغ ذروته مع احتلال الكويت، وترافق انحسار النفوذ الروحي لفقهاء المؤسسات الدينية الحكومية مع بروز جيل من الخطباء والوعاظ مزجوا بين العقيدة والفقه السلفي وأهداف الإخوان المسلمين. وعبر هذا التحول الجذري نبعت تفسيرات جديدة لمعنى الجهاد من قبل منظرين وباحثين لا ينتسبون لمؤسسات الفتوى، ولا يعنيهم مباركة علماء وتزكيتهم.
نبع عن هذا التحول ضمور في فقه الجهاد كما هو في كتب المذاهب الفقهية وحسب ما يدرس في الجامعات والمعاهد الدينية، وعلى أنقاضه نشأت نظريات وأفكار وفقه جديد اشتغل عليه أشخاص غير منتسبين للمؤسسات الدينية الرسمية، تمثلت في أفكار هجينة كانت توليفة ملفقة من أكثر من رأي، وجرى إحياء اجتهادات مهجورة وطرحت على أنها أقوال تحظى بالقبول في الوسط العلمائي. تسللت مفاهيم من خارج الفضاء الفقهي تأثرت شأن غيرها بلوثة الحركات والتنظيمات السياسية الإسلامية التي ظهرت في الثلاثينيات من القرن العشرين، وكانت مبادرة عبدالمحسن العبيكان أحد علماء الدين السعوديين لخوض سجال مباشر عبر تليفزيون الإم بي سي مع من يحملون آراء مخالفة له في قضايا الجهاد ومشروعية الاحتلال الأمريكي للعراق، صورة مكثفة للهوة بين عالم دين تقليدي، وبين جهاديين يعيشون الألفية الثالثة أكثر من خضوعهم لفقه ينتمي إلى فضاء حضاري سالف.
تعيش السعودية اليوم حرب الأفكار مع تنظيم القاعدة، والسعودية هي إحدى الساحات الكبرى لهذا الصراع. إن أي تغير إيجابي، أيَّ انتصارٍ في السعودية ضد العنف والأفكار المؤسَّسة له حتى ولو كان بطيئا يكتسي أهمية كبيرة، لما لهذا البلد من تأثير كبير على العالم الإسلامي والإسلام السني على وجه الخصوص.
لقد تخصصت كتب الفقه بجهاد السيف وأحكامه، بينما انحصرت كتب التصوف بجهاد القلب والنفس: الجهاد الأكبر، وهيمنت سطوة الفقهاء وعلوم الشريعة على مجمل مفاصل قصة الحضارة الإسلامية وتاريخ المسلمين وثقافتهم، وفي الوقت الذي انحسرت وتضاءلت فيه الرقعة التي يسمح فيها للتصوف ورياضة النفس والباطن والجهاد الأكبر بالتواجد والمزاحمة، كان الجانب الآخر يتضخم ويسيطر بشكل مفزع ومخيف. لهذا كان تاريخ الثقافة الإسلامية بمجمله تلخيصاً لقصة الفقهاء ونفوذهم.
اليوم يتسلل على استحياء مصطلح الجهادِ الأكبر جهادِ النفس، أوما يسميه المُحْدَثون من الفقهاء بالجهاد الحضاري إلى قاموس الفقهاء، ومع أن هذه شمعة مضيئة ومبعث أمل، إلا أن كل هذه الجهود والمساعي لن تثمر مالم يصاحبها إعادة تفسير لمفهوم الإيمان الذي يمنح الإنسان الطمأنينة ومحبة الله.
لقد انتعش في فترة مبكرة من فجر الإسلام تيار من الفقهاء وأهل الرأي أولى اهتمامه الأكبر في مفهوم الإيمان الحقيقي بالإيمان القلبي ووجد في قصة مؤمن آل فرعون والنجاشي ملك الحبشة سنداً له، ووجد له أنصاراً لدى طائفة من فقهاء العصر الأول، فانصب اهتمامه الأكبر على صلاح الباطن ونقاء السر، وأنزل الظاهر والأعمال والعبادات العلنية في مرتبة ثانوية لأن (في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، ولكن هذه المدرسة انكمشت وذوت مبكراً لأسباب كثيرة، وعبر قصة محزنة يطول الحديث عنها وجدتْ هذه النزعة أحياناً مخابئ لها في الإيمان الصوفي الذي أبدع أعظم ماترجم من الآداب الإسلامية إلى الحضارات الأخرى، ومالم يتم اليوم إنعاش وبعث لهذا المفهوم فإن أي محاولات عن مستويات أخرى من الجهاد تقلص من مساحة الاجتهادات الفقهية التي تبرر إهراق الدماء وقتل الأبرياء واستباحة الأموال وإثارة الخوف، هي جهود ضائعة ستذهب أدراج الرياح.
إنها بداية صعبة تحتاج إلى اصطبار وأناة وإيمان فَرِحٍ متفائل، وأرواح جريئة باسمة وواثقة بقدرة الإنسان على التغير نحو الأفضل، هي قصة أزمة المسلمين مع إسلامهم ومع العالم من حولهم ثقافات وأدياناً، يؤكد هاشم صالح كثيراً على أن عصر أنوار المسلمين أمامهم وليس خلفهم، وأن ما نعيشه اليوم هو الإرهاصات، لأن أوروبا حسمت أزمتها مع الظلمات بعد أزمة حادة تكثفت في الثلث الأخير من القرن السابع عشر، وهذا ماسوف يحصل معنا نحن المسلمين، وهي حكاية في غاية الإثارة تستحق أن تُخاض مهما كانت العوائق والموانع.
25/10/2009