قبل تسع سنوات كنت في زيارة لقريب يكبرني بعشرين عاماً، اعتدت أن أستنصحه وآخذ مشورته، ويومها قال لي: عليكم أن تكونوا حذرين لأن ما تطرحونه من أفكار وتنشره الصحف لكم هو سحابة صيف ستزول سريعاً. اليوم هو نفسه انزلق نحو الإعلام، فبعد ثلاثة عقود من العزلة واليأس وجد شرائح عمرية متعددة تقرأ له وتحتفي به وتشجعه على العطاء، فهو يعيش الآن فترة ازدهار مفعماً بالطاقة والأمل ، ولكن بما أن عجينته قد اختمرت سنوات طويلة قضاها في التأمل فقد كان نتاجه حقيقياً أصيلاً نابعاً من الأرض، من النخيل والسواقي، ومن الصحراء التي أحبها وهام بها وذابت روحه عشقاً لها. لم تزل تلك السجية المتشائمة الكئيبة تطفو بين كلماته كل حين.
السنوات التسع الماضية كانت ذات خط بياني متعرج صعوداً وهبوطاً، ازدهاراً وهموداً، إقداماً وإحجاماً، وفي كل فترة ومع كل موجة كانت الصحف ووسائل الإعلام تضخ أصواتاً ووجوهاً وأقلاماً جديدة، تتفاوت في انتماءاتها بين المحافظة والتجديد، بين الانفتاح والانغلاق، متنوعة في مستوى وعيها وقدرتها على شرح فكرتها. تنوعت في مواقفها من الحريات وحقوق الإنسان والدين، تنوعاً وصل إلى حد التضاد والتناقض أحياناً. بعضهم كان أحياناً يؤمن بالفكرة ونقيضها، وربما نقض مقالاً كتبه قبل أسابيع بمقالة جديدة تنسخ ما سطره، وأحياناً يضطر إلى كتابة مقالة ثالثة يشرح فيها وجهتي نظره ويوفق بينهما. أحياناً يتبنى الكاتب أفكاراً متخاصمة في فترات زمنية متقاربة..
قليل مما نكتبه اليوم أو نقرؤه يمتاز بالأصالة والتأثير، معظم ما نكتبه مستنسخ من بعضنا أو مكرر بأسلوب وإهاب آخر ولكن الجوهر والفكرة واحدة. بعضنا أصبحوا مداحين أو هجائين، يخنسون أمة من الدهر ولا يظهرون إلا في المناسبات ثم يعودون إلى كهوفهم. لماذا نحن لا نعتذر عن الكتابة حينما لا نجد ما يستحق أن نكتبه؟ الجواب أن الكتابة قد تكون مصدر رزق للكاتب، ولهذا فهو مطالب بالالتزام ولكن هذا هو شطر الإجابة، ونصفها المتبقي يعود إلى أن البيئة المحيطة لا تساعد على الجدة والإبداع، فالتأسي والمضاهاة هما الأصل وفي التأسي السلامة، والجديد فكراً وأسلوباً يسبب القلق ويستنزف النفس، لهذا نستنسخ بعضنا ونلوك الفكرة عشرات المرات. قبل ثلاثة أشهر اضطر بعض الكتاب للقيام بعملية تقويم ما أنجزوه وما كتبوه في السنوات الماضية، في النهاية اتضح لهم أن ما يعاب عليهم هو عدم امتلاكهم قدرة استثنائية لشرح أفكارهم الجريئة بأسلوب مخاتل وفضفاض.
كان بعض مشايخي يفسرون سبب خلود بعض كتب المتقدمين من السلف بأنها كتبت بنية صادقة وإخلاص، وأحيانا يفسرونها بالبركة التي تمنح الشيء النماء والبقاء والعطاء الذي لا ينقطع. فكثير من مؤلفات الأقدمين كتبت بنية طاهرة ونقية، ولكنها بقيت ضمن نخبة من المتعلمين والمهتمين، ومقدمة ابن خلدون عاشت بعد تأليفها بمئات السنين ازدهاراً وانتشاراً تجاوز خريطتها الثقافية والجغرافية وترجمت إلى عشرات اللغات، وقد كان ابن خلدون في زمانه سبة بين الفقهاء، منبوذاً معزولاً موصوفاً بالجشع والانتهازية ورقة الدين، ولكن الشيء الذي ميز مقدمة ابن خلدون هو الأصالة والعالمية، فالأفكار الأصيلة هي التي تبقى وتزدهر وتضمن الخلود والتجدد، إنها تماماً كتفسير الحلم ترقد على جناح طائر ومتى ما وجدت أرضها الخصبة استقرت وأينعت وأثمرت، كما هو الحال مع أشعار حافظ الشيرازي أو عمر الخيام. لدي تسجيل صوتي لمختارات من (النبي) لجبران، وقد استمعت إليها في السنتين الأخيرتين في السيارة والبيت عشرات المرات، وفي كل مرة أشعر بطراوتها ونداوتها وكأنها أول مرة تلامس شغاف الروح.
بعض المقالات في عالم السياسة لا تقل وهجاً عن أعظم كنوز الفكر الإنساني في الأدب والفكر، فمقال (العالم من دون الإسلام) لغراهام فوللر الذي نشرته الفورن بوليسي في فبراير 8002، هو من هذا الطراز الرفيع من المقالات، وفي العدد الأخير من المجلة نفسها نشرت المجلة مقالاً يضج بالحكمة والدهشة لروبيرت كابلان عن (ثأر الجغرافيا) والتأثير العظيم لمقالة نشرت عام 4091 من أربع وعشرين صفحة ل (أبو الجغرافية السياسية الحديثة) العالم البريطاني هالفورد ماكندر حول أن روسيا وأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى هي المركز الذي يدور حوله مصير الإمبراطورية العالمية.
أقوم بين الحين والآخر بتصفح بعض ما ينشر من كتب جديدة في الرقائق والوعظ، وأشاهد مقاطع على يوتيوب أو استمع إلى أخرى على موقع إسلام ويب لشيوخ وقصاص منهم من هو حديث عهد بالتدين، وآخرون ممن شب واكتهل في هذه الوظيفة، ولكنها بلا طعم ولا مذاق، غالبها متكلف وجاف وربما مبتذل لايقارب ذرى الحِكمة التي كان الأوائل من السلف ينثرونها على مسامع الفقراء والمتصوفة ويتناقلونها جيلاً إثر جيل. ليس ذلك راجعاً فقط إلى ضمور اللغة وضعف الملكة والهزال العقلي فقط، بل إلى صفاء الروح ونقاء النفس وطمأنينتها، فالنفوس المريضة الملوثة لا تحظى بإشعاع يحلق بالأرواح إلى الأفق الأعلى نحو سدرة المنتهى وملاذ النفوس المتعبة، على خلاف بعض قصائد مولانا جلال الدين الرومي، وأنت تستمع إليها على يوتيوب مصحوبة بالموسيقى والصور البديعة الكونية، وهي تتفتق عن حس إنساني متسامح لدرويش فارسي حط رحاله في قونية التركية ذات يوم في فترة حالكة قبل ثمانية قرون.
كما هي قصة الأفكار في كل الأزمنة، بعضها يبلغ أوج انتشاره ونفوذه بسبب أسبقيته في الحديث عن قضايا كانت في منأى عن الضوء، وبعضها أعيدت صياغتها كرة أخرى وقدمت للقارئ والمشاهد بأسلوب جذاب وذكي. من قرأ منكم كتاب (السر) أو شاهد الفيلم الوثائقي عنه فلن يعثر على جديد، فهو يعلم أن الإنسان إذا امتلأ قناعة بهدفه ولازمَه همُّه وسعى إليه بكل صدق نال مراده في النهاية، لكن الجديد أن كل أولئك المتحدثين من المعلمين جعلوا في الأمر رابطاً روحياً هو علاقة الجذب بين الأشخاص وغاياتهم وربطوا ذلك بنجاحاتهم في حياتهم العملية، وقديما قال ابن القيم الحنبلي إن العوالم برمتها يربطها الحب، وإن الانجذاب هو سر هذا الكون.
أحياناً تقفز بعض الأفكار إلى السطح وتفرض نفسها كمنافس للتعاليم الراسخة المتجذرة، فتجد من يحامي عنها ومن يبشر بها، ولكنها قد توفق بمدافعين يحسنون عرضها وقد تبتلى بمحامين سيئين لا يوفقون في اختيار اللغة والتوقيت المناسبين، فيجنون عليها ويشوهونها أكثر من خصومها. ولأنني عشت الأيام الماضية أتصفح إحدى روائع الفكر العربي، فأنصحكم بأن تستمتعوا بقراءة كتاب المفكر المغربي عبدالله العروي(السنة والإصلاح)، وهو يقص قصة الإسلام على سيدة أمريكية بأسلوب مثير باذخ وساحر، عسى أن يكون في ذلك بعض العزاء لكم كما كان لي منه سلوى.
31/5/2009