انتعشت في الفترة الأخيرة المحاولات التي تسعى لرصد الظاهرة الدينية في السعودية، ويبدو من الأحاديث التي أتبادلها مع الزملاء أن هناك عدداً من الدراسات التي سترى النور قريباً وغالبيتها تتناول التحولات الدينية والتنوع الذي تعج به السعودية في العقود الثلاثة الأخيرة.
هذا خبر مفرح، لأن كثيراً مما نشرته الصحف ولم تزل هو استسهال وتنميط لايليق بمثقف أن ينساق وراءه فضلاً عن أن يعتمده مرجعاً له أومصدراً يبني عليه. آن الأوان للسعوديين أن ينبذوا الكسل عنهم ويقوموا هم أنفسهم بهذه المهمة بدلاً من أن يقضوا ساعات يهذون فيها أمام باحثين أجانب كل تجاربهم ويمنحونهم بسخاء خلاصة حياتهم ويجودون عليهم بمعلومات كان يمكن لهم بقليل من الاجتهاد أن يصدروها بأقلامهم وتحتل مكاناً محترماً في المكتبة العربية. ولم يكن مانشرته مجلة النيوزويك في عددها الأخير من النسخة العربية عن (القصيم تحكم السعودية) والتأثير الديني الأسطوري للمنطقة إلا أنموذجاً لما تنشره الصحف الأجنبية.
ولكن ما أود الإشارة إليه هو أهمية التأريخ لعوالم كانت بعيدة عن متناول الصحافة والباحثين الأجانب حتى اليوم، وهو الجدل الذي كانت تعج به المجاميع الصغيرة داخل الوسط الديني والصحوي، كيف تنشأ الخلافات بينهم؟ وكيف تتشكل التيارات داخل الجماعة الكبيرة الأم؟ وكيف تطفو على السطح أفكار تنزع نحو التمرد والتملص من سطوة الجماعة؟ وكيف يستقبلها الشيوخ وكيف تتعامل معها شرطة الأسئلة داخل المجموعات؟ وماهي السبل التي تُتخَّذ لأن تذبل تلك الشعلة ويكون مآلها إلى الخمود؟
من المؤسف أن هذا المجال الخفي لم يكتب عنه حتى اليوم، ومصادره القادرة على الكتابة عنه لاتتجاوز عدد الأصابع، وأنا ألوم بعد نفسي بعض الأصدقاء والزملاء الذين عاشوا تلك المرحلة أو كانوا قريبين منها ومطلعين على تفاصيلها. إنني على يقين بأن تلك النقاشات التي جرت قبل 21 عاماً هي أنموذج مصغر لطبيعة الخلافات التي كانت تجري في العهد الأول والقرون الأولى من الحضارة الإسلامية والتي سبقت عصر التدوين واستمرت بعده، لأنها كانت مطلقة العنان دون كوابح .كانت تضاهي تلك الطراوة واللدانة التي امتازت بها جدالات العصر الأول، قبل أن تصلب وتصبح ثوابت لاتتحلحل.
جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح أن صفوان بن المعطَّل الذي لم يكن يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، وكان صفوان شديداً على زوجته في المسائل المالية يحاسبها على كل ماتنفقه من مالها، فشكته إلى الرسول وقرنت شكواها بأنه لا يصلي حتى تطلع الشمس، وبأنه أنهكها في المعاشرة حتى لم تعد تستطيع الصيام متى ما أرادت. ولأن صفوان كان مطالباً بالتوضيح إزاء تلك النقاط فقد اعتذر بأنه من عائلة اعتاد أبناؤها عدم الاستيقاظ إلا بعد طلوع الشمس، فقال له الرسول: “إذا استيقظت فصل”، ومن البديهي بأن من لايصلي إلا بعد طلوع الشمس فهو قد تخلف عن صلاة الفجر.وكما يظهر فإن صفوان لم يكن مطالباً بتوفير من يوقظه للصلاة.
وهذا الحديث النادر في بابه كما يقال، اقتنصه بعض الزملاء ممن كانوا يميلون إلى مدرسة أهل الحديث، ولأنهم كانوا يمتلكون شجاعة فكرية اكتسبوها من إدمانهم لكتب ابن حزم الظاهري وروح التجرد للسنة وازدراء الفقهاء التي تلبستهم، ولأنهم كانوا عرضة لإشعاع عالم الحديث السوري الألباني، فقد أراح بعضهم نفسه من تأنيب الضمير الذي كان يزعجه كلما فاتته الصلاة، فعمدوا إلى الاستغناء عن كل الوسائل المساعدة للاستيقاظ، وكانوا يستيقظون عند الظهيرة وأحياناً قبل ذلك، لم تمض أيام حتى أصبح بعضهم لايلبسون نعالهم إلا وهم جلوس، لأنهم وجدوا حديثاً صحيحاً ينهى فيه الرسول عن أن يلبس المؤمن نعليه وهو واقف.كانوا يداومون على صلاة الوتر والنوافل ويصومون الاثنين والخميس، كانوا أتقياء لهذا انشغلوا بالتجارة والعمل من كسب أيديهم. بدت تلك السلوكيات غير تقليدية عن المطاوعة، لهذا كانت بالنسبة للآخرين من نظرائهم مثار انتقاد. كنت واحداً ممن انتقدوهم ولم أستسغها، ولكنها كانت شيئاً يتمخض من تحت القشرة المتجلدة المتصلبة، كان ثمة شيء يتنفس ويحتاج إلى رعاية واحتضان.
كانت الأسئلة توشوش في عقولهم وتزعجهم لخوض مجالس طويلة من النقاش مع كل من التقوا به واختلفوا معه. أفضت بهم في النهاية نحو الاندياح إلى تخوم التماس مع طوائف وفرق إسلامية كانوا يناصبونها العداء والخصومة.
استحالت تلك الملكة إلى إرهاصات بتشكل روح من عمق السلف لم يعهدها شيوخهم، كان السؤال الكبير الذي سيطر على نقاشاتهم: إذا كان القرآن وصحيح السنة لم ينصا على وجوب اعتماد كل مؤمن على أفهام السلف الأوائل في اتباع الشريعة، لأن أولئك الأوائل أنفسهم كانوا مخاطبين كما نحن اليوم، ولم يكن لهم مثال سابق يحتذونه وقت التنزل أو في العهد الأول الذي أعقب وفاة الرسول، ولأن بعض الوقائع من الخلافات التي حدثت في حياة صاحب الرسالة وتلك التي أعقبت وفاته عكست الاختلاف الكبير بينهم وتوارثته الأمة بشكل أكبر قرناً بعد قرن، كل ذلك يعني أن الحديث عن إجماع واتفاق ليس إلا نوعاً من التخويف الذي كان يسلط على من يشذون عن المتعارف عليه، وأننا إذا وجدنا وفرة من النقول عنهم في أشتات الشريعة فمن أين لنا أن نجد لهم نصوصاً واضحة وقطعية فيما هو من أسس الدين الذي يسلب الإنسان به الإيمان ويحكم عليه بالخروج من الإسلام؟
كانت هذه المسائل التي عبرت عن نضج متقدم قبل عشرين عاماً هي أقصى مايمكن أن تسمح به شجاعتهم الفكرية، لأنها أفضت بهم إلى عالم آخر من الأسئلة حول مفهوم الإيمان ونواقض الإسلام وضوابط التكفير التي وضعها الفقهاء وفرعوا عليها.وعند هذه الحدود توقف الجميع ولم يرغب أحد منهم بأن يكمل المشوار لأن ذلك كان يعني بالنسبة إليهم الانسلاخ نحو دائرة أخرى لم يكونوا مهيئين لها.
يبدو لي أن هذا النوع من الجدل هو شبيه بذلك الذي وقع قبل ألف وأربع مئة سنة، ولكن يبدو أن مرويات السنة التي تشكل هيكل الإسلام والغالبية العظمى من تفاصيله العملية قد تعرضت لموجات ثلاث من الكتابة، أولاها في عصر التدوين، والثانية كانت فترة الحروب الصليبية وحتى سقوط الخلافة العباسية، وهي إحدى المراحل الحاسمة والكبرى التي أحدثت تأثيرات هائلة على الإسلام حضارة وشريعة، وكان لانعكاساتها الاجتماعية والثقافية تأثير كبير أثار الخوف والفزع لدى الفقهاء الذين كانوا يعانون من شعور متعاظم بنفوذ العسكر وشعورهم بالتهميش والسقوط من أعين العامة والقادة والأمراء، وفي هذه الفترة صدرت فتاوى كثيرة من فقهاء تناقضت مع ماجاء في السنة وما قضى به الرسول وأفتى به لأنهم وصلوا إلى قناعة بأن التشديد والمبالغة في التضييق هو السبيل لإحجام الأمراء عن مظالمهم واستهتارهم، ولهذا انزعج نور الدين زنكي من تشديد القضاة والفقهاء في فتاويهم وأقضياتهم على العامة خلافاً للأحكام الشرعية المعروفة، لأن الفقهاء تصوروا أن ذلك هو السبيل لردع المجتمع عن التفلت، ولكن الأمور كانت كلها تتجه نحو الانهيار.
ومن الواضح أن هذا المزاج الكئيب الذي تلبس الفقهاء منذ القرن الحادي عشر حتى الثالث عشر رافقته موجة ثانية من الفلترة والنخل للسنة فقد تواطأ الفقهاء على اعتماد بضعة آلاف من الأحاديث المروية اعتبرت كافية وأن كل ماقد يستجد من نوازل فهو لايخرج عن تلك الأحاديث التي جمعت في مختصرات ومتون لايتجاوزها الطلاب في أكبر معاقل العلم وجوامعه.هذه الموجة كانت المرحلة التي شهدت إنتاج أعظم دواوين الفقه والتي اكتفت في غالبيتها الساحقة على الشروح والحواشي والتعليقات.كانت مرحلة خمود وجمود.
ومع انبعاث الحس الإسلامي السياسي في القرن العشرين والذي مهدت له بعض أفكار رواد الإصلاح، جاءت إرهاصات الموجة الثالثة مع أحمد شاكر ونهض بها عالم الحديث السوري محمد ناصر الدين الألباني في مرحلة انكسار وتضعضع للمجتمعات الإسلامية وانكفاء نحو الذات، وقد كان دور الألباني عبر نصف قرن من العمل الدؤوب ذا شقين، فهو قد أسهم في إشعال الفتيل لتلك الروح النزاعة نحو الاستقلال والاجتهاد وإطلاق العنان للعقل المسلم ليأخذ من صحيح السنة مايتجاوز به مقولات الفقهاء الجامدة ويسهم بإضعاف موقف جماعات الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين) ويلمزها بضعف التمسك بالشريعة والإدهان في سبيل أهدافها السياسية، ويمنح السلفية العلمية أكثر فتراتها ازدهاراً خلال الثمانينيات حتى منتصف التسعينات، ولكن الألباني أيضاً أسهم بشكل كبير في إعادة كتابة السنة مرة أخرى وفلترتها كرة أخرى لإعادة تشكيل العقل المسلم في العصر الحديث.
منذ سنوات يشرف القاضي السابق والمحامي عبدالعزيز بن محمد القاسم على مشروع كبير لاستخلاص مواطن التسامح في التراث الإسلامي وهو مشروع ضخم فُرِّغ له عشرات الباحثين وأظنه اليوم قد اكتمل. أعتقد أن تسليط الضوء على تلك الموجات الثلاث التي تعرضت فيها السنة لإعادة الكتابة والتصفية والعزل لنصوص غير مرغوبة، وترشيح أخرى للدفع بها نحو المقدمة لتكون جزءاً من أولويات المسلم في حياته وسلوكه اليومي هو مجال يستحق الدراسة بشكل مكثف ومعمق، لأنه سيضيف إلى دراسات السنة ويكشف حقيقة الدور الذي لعبه علماء الحديث والجرح والتعديل في صياغة الإسلام عبر ألف وأربعمائة عام، فلطالما كانت السطوة الكبرى هي لأولئك الذين يصدرون الأحكام على الرواة والمتون لأنهم مالم يمنحوا تزكيتهم للمتن والسند فإن الفقيه الذي ينتج الحكم ستكون سطوته واهنة وهشة، لأن أقوى الأحكام الفقهية رسوخاً هي تلك التي استندت على أحاديث صحيحة، لهذا كانت سطوة الألباني أقوى من سطوة أي فقيه في القرن العشرين.
26/4/2009