إنه لأمر بالغ التأثير أن يبادر الملك عبدالله بن عبدالعزيز بالدعوة إلى مؤتمر يتناول الحوار بين الأديان والثقافات ويدعو إلى التسامح وتجاوز الحدود الضيقة والرؤى المتطرفة، كنت أتوقع مثل هذه الدعوة من زعماء غربيين أو من الشرق الأقصى أو من القارة السوداء، ولكن ماكان أشبه بالحلم قبل عام واحد فقط، هو أن تأتي هذه الدعوة من ملك المملكة العربية السعودية ومن زعيم أكبر دولة مسلمة تضم أراضيها مكة والمدينة أعظم مقدسات المسلمين ، والملك عبدالله حقق سابقة تاريخية، فالمملكة أسوة بغيرها من الدول الخليجية لم تسجَّل لها مبادرات ثقافية عالمية من العيار الثقيل تتجاوز الحدود الجغرافية للديانات والنظرة التقليدية للانتماء، فلعقود طويلة كانت مثل هذه المشاريع وما يتصل بها أو يقاربها -إذا وُجِدتء- شبه محتكرة لدول عربية أخرى، كانت على الدوام ترى لنفسها حق ماتسميه بالريادة الفكرية والثقافية.
قد تكون شعوب وحكومات دول الخليج هي الأكثر عرضة للتغير والتحول وإعادة التشكل عبر السنوات العشرين الماضية إذا ما قورنت بدول عربية أخرى باستثناء العراق، وإذا ماقُدِّر للخليج أن يطوي بين جناحيه في السنوات القادمة عبر قطبيه: السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة النفوذَ الاقتصاديَ والسياسيَ والروحيَ القائمَ والمتعاظمَ للسعوديين، والريادةَ الثقافيةَ والمعرفيةَ وتجربةَ التسامح الاجتماعية والثقافية الاستثنائية في الإمارات، فإننا حقاً نعيش حقبة جديدة تسنح فيها فرصة تاريخية نادرة لتكون هذه المنطقة صاحبة دور حضاري فاعل لتنضم إلى نادي الدول والقيادات المؤثرة في التاريخ. والكلام هنا عن توافر الشروط والإمكانات، وهو نصف الطريق في تحقيق هذه الغاية.
ليس واضحاً بعدُ كيف ستكون مآلات الأزمة الاقتصادية العالمية وانعكاساتها السياسية على مواقع الدول الكبرى والإقليمية المؤثرة، وكيف ستكون آثارها العميقة على الشعوب اجتماعياً ودينياً وثقافياً، ولكن مايبدو في الأفق يوحي بأن أتباع الديانات والنحل ستتنامى أعدادهم، والفقر ستتسع رقعته والحسد سيتضاعف في النفوس والقلوب المنكسرة والشرائح والطبقات المحرومة المحطمة، وبهؤلاء الثلاثة تنشأ النزاعات وتتطاحن الجماعات ويفتك الناس ببعضهم بعضاً. وكان توقيت انعقاد الاجتماع موفقاً في لحظة حاسمة من تاريخ البشرية، ستنزلق فيها الحكومات والمجتمعات إلى نفق معتم غير واضح المعالم، وهي لحظة ستقوم بإعادة الفرز والتصنيف وتضع بصمتها على مستقبل الأمم لعقود قادمة.
بدا السعوديون أثناء الاجتماع وفي نهايته عازمين على مواصلة المشروع وتجديد اللقاء في بقاع أخرى من المعمورة، فكانوا مفعمين بالقناعة بضرورة استمرار العمل من قبل الحكومات وأصحاب القرار لرأب الصدع بين الثقافات ونزع فتيل التوتر بين الأديان والمذاهب.
لم أشعر يوماً بمشاعرحب تجاه ملك أو زعيم كتلك المشاعر العارمة التي غشيتني ليلة الجمعة الماضية ، وهي مشاعر كانت تترعرع في داخلي مع كل تقرير إخباري أو صورة تنقل جانباً من الأنشطة واللقاءات. أذكر تعليقاً لأحد الكتاب الفلسطينيين في قناة الجزيرة قبل سنوات تحدث فيه عن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وقال فيه بأنه يشعر أحياناً بالخزي والصغار “كفلسطيني” من بعض التصرفات التي تصدر من “أبو عمار” في حياته. وهذا النوع من المشاعر السلبية والمؤذية يكون له انعكاس سيئ ومدمر للأجيال الجديدة والناشئة التي تتطلع إلى أن تكون قيادتها السياسية مكان القدوة الملهمة، والمثال الأخلاقي الرفيع، ومبعثاً قومياً للفخر والنشوة والثقة بالنفس والكبرياء. بإمكاننا أن نوجد معياراً يوضح تفاوت درجات الاعتداد القومي والشعور بالفخار حينما نقارن بين مجتمعات قيادات معاصرة سياسية عظيمة ومؤثرة، وبين شعوب اعتاد رؤساؤها أن يكونوا هم اليد السفلى أو مبعث السخرية والخفة والاستهجان.
كإنسان ترعرع في نجد ومن مدينة يتمتع أهلها بافتخار لايُضاهى بانتمائهم إلى بقعتهم فقد كان لقاء الملك الكبير بكل أولئك الزعماء مبعث فخر لي لا أستطيع كتمانه، يفوق بمراحل تلك المشاعر القومية الطافحة التي تفجرت بها جوانحنا في مداخلته الشهيرة في القمة العربية قبل احتلال العراق بأيام قليلة. قبل شهور كنت أقرأ في الوثائق الألمانية عن الجزيرة العربية والملك عبدالعزيز قبل الحرب العالمية الثانية، وكانت تفصح بشكل كبير عن الأنفة والشموخ الذي تجلى في محادثاته وتطلعه إلى الاستقلال والنأي بنفسه وببلده عن مواطن الخضوع، أحسب أن الملك عبدالعزيز هو اليوم في غاية الرضا والطمأنينة.
نادراً ماكانت شخصية الرئيس والملك محببة إلى الناس في مجتمعاتنا العربية، فالرعية قد يحدوها الخوف أو الرهبة أو هيبة السلطان أو قدرته على التحكم بمعايشهم لمدحه وإعلان الولاء له، ولكن الحب ليس بأيدي الناس و كما قال الرسول في صحيح البخاري “المِققَةُ من الله” أي إأن المحبة لايرغَم الناس عليها لأنها من أحكام القلوب ومن خواص النفوس، وكما يقول المتقدمون هي شيء يُقذف في القلوب يصعب التحكم فيه، وتنقاد له الأرواح وتنجذب له من دون استئذان أو رقيب. وأنء يعيش الإنسان حياته يرفل بحب الناس وتقديرهم له واحترامهم العميق هو غاية كل إنسان سوي، وهذا مايبدو أن الملك عبدالله قد ظفر به من قلوب شعبه استحقاقاً لاينازعه فيه أحد، ولكن ماهو وراء ذلك كله بالنسبة إلي كسعودي وكشخص معني بالتسامح والحوار بين الديانات هو مستوى الإعجاب الكبير الذي حظي به خادم الحرمين والتقدير العميق له من قبل زعماء العالم، ومن قبل المثقفين والمفكرين.
أنا معذب بعشقي للمملكة العربية السعودية، موزع الفؤاد والروح تتقاسمني المحبة والعتب، الهوى والحزن، وإيماني العميق بأننا قادرون على أن نكون أفضل بكثير مما نحن عليه اليوم، وأكثر تفادياً للإخفاقات، وأقدر على إزالة المعوقات والقضاء على كل بؤر التوتر وإثارة النعرات وسد منافذ شياطين التطرف وسحرته.
قد تتعثر بعض المشاريع، وقد لاتؤتي ثمارها المرجوة في الداخل والخارج، ربما يكتب لها النجاح والذيوع والرسوخ خارج أرضها لأنها أفكار عالمية تتجاوز الجغرافيا، ولكن ماهو أهم من كل ذلك هو الإرادة الحقيقية والنية الصادقة في تحقيقها، فنيلسون مانديللا لم يكن هو كل السود المعذبين ومن مورست عليهم العنصرية ولا كل من كانوا رفقاء دربه كانوا بمنزلته أو بقدر إخلاصه وإيمانه العميق بمبادئه، والأمر نفسه كان مع غاندي ويكفي فقط استعراض سريع لسيرته ولرسائله مع أصدقائه والمعجبين به من المثقفين والمفكرين. ولكن ماهو واضح لنا وضوح الشمس أن دعم الملك عبدالله في هذا المسعى النبيل الذي يحث إليه الخطى بكل ثقة لتحقيق هذه الغاية التي يطمح إليها هو واجبنا جميعاً، ونصرته هو نصرة لأنفسنا وبلدنا وأبنائنا وأقل مايجب لتقديم صورة مشرفة عن هذا البلد أمام العالم.
17/11/2008