لي صديق أعرفه منذ عشرين عاماً، كان لديه حلم اقترح علينا قبل ستة عشر عاماً أن نبدأ الخطوة الأولى لتحقيقه بعقد زواجات مختلطة بين جنسيات متعددة وأعراق مختلفة، السعودية تتزوج المصري والمغربية العراقي والسوري ينكح اليمانية والشيشانية الكويتي، والسوداني يصاهر الفرس. كان يشجع التزاوج بيننا نحن السعوديين وبين المسلمات حديثاً من الدول الغربية.
كان يختصر شرح فكرته بأن هذا المشروع سيتجلى أثره الإيجابي في أنفسنا وفي أبنائنا،
في علاقاتنا بالعالم من حولنا ونظرتنا إلى الشعوب الأخرى، وانه سيمنحنا انفتاحا ثقافياً واجتماعياً نجد أثره في أبنائنا حينما يكونون نتاج كل ذلك التمازج بين ثقافات وجذور متنوعة، ويسوق الشواهد من تجارب الفاتحين الأوائل في صدر الإسلام في عهد الفتوحات العظيمة في الشام والعراق وإيران وأصقاع المعمورة. ولأنه كان مؤمناً تقياً فقد اعتبر ذلك جزءاً من توطين بطيء للإسلام بشكل سلس في أوروبا وأمريكا.
لم يكن أكثرنا ثقافة ولا أوسعنا علماً ولا أعلانا منصباً، بل كان شخصاً مختلفاً يضع أصبعه على غير المفكر فيه فقد كان ذا عقلية خلاقة، ولم يكن مفاجئاً لي أن يكون مصدر إلهامه في هذه المشروع شقيقه الذي يكبره سناً والذي كان وقتها يعيش مابين طوكيو ولندن، ولأن صديقي كان من عائلة كبيرة وذا نسب عريق فقد كان صادقاً مع نفسه حينما قام بإقناع والده بأن يتقدم بخطبة فتاة لا قبيلة معروفة لها، وبعد سنوات خطا خطوة أكبر مما كنا نتوقع، حينما عرض نفسه بثقة وقناعة عميقتين للزواج من صبية مجهولة الوالدين، ولكن الحظ لم يحالفه.
أمثال هذا الإنسان الممتاز في مجتمعنا يكونون ندرة، لأن الظروف والتقاليد والعادات لا تسمح بخلق مثلهم، وتشكل أسواراً منيعة تحول بينهم وبين مايحلمون به ويسعون إلى جعله واقعاً، وفي معظم الحالات ينتهي أمرهم إلى الإحباط واليأس. فمثل هؤلاء لا مكان لتحقيق أحلامهم هذه إلا بعد أن تكون المجتمعات التي يبتغون تغييرها نحو الأفضل قد تهيأت وعاشت تحولات كبرى قد تستغرق جيلاً أو أكثر، وربما تنتهي حياتهم وتنقضي أعمار أجيال بعدهم والحلم لم يزل حلماً.
من أجل هذا كان النصر الكبير لباراك أوباما ملهماً للملايين من البشر في أرجاء الأرض، كيف خطا شخص من أصل أفريقي ومن أصول مسلمة طريق الألف ميل من الفقر والشتات والمعاناة في طفولته لينال تعليمه في أرقى الجامعات في العالم، ويغدو اليوم قائداً لواحدة من أعظم الدول التي عرفتها البشرية!
لقد غشيتني رعشة وأنا أستمع إلى خطاب الرئيس الأمريكي بعد أيام من تفجير مركز التجارة العالمي وهو يعلن للشعب الأمريكي أن البوارج الأمريكية تمخر عباب المحيطات لترسخ الأمن في العالم وتسحق المخربين. أن تكون فرداً من أمة تحكم العالم وترعى شؤونه وتصوغ حاضره ومستقبله القريب هو أمر يبعث على الفخر، وأن تحمل جنسية بلد تقرر إدارته غزو العالم فتسقط الحكومات وتنصب الرؤساء وتلاحق المفسدين في الأرض وتقتنص أعداءها في جحورهم كالفئران، وفي الوقت نفسه تواجه هذه الإدارة أكبر معارضة لها في سياستها الخارجية من مواطنيها وممن يعيشون على أرضها؛ إنه لشيء استثنائي في تاريخ الحريات والتطور البشري، لكن ما هو أعظم من كل ذلك أن تكون فرداً عادياً مهاجراً أو لاجئاً أسود اللون تجد نفسك بعد سنوات قادراً على أن تنافس على قيادة مثل هذا البلد الأسطوري. ولهذا قال المفكر السياسي الأمريكي فريد زكريا إنه يفكر بمستقبل ولده عمر الذي يبلغ التاسعة من العمر حينما يرى اليوم أن بإمكان شخص مثل أوباما أن يكون الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية.
لطالما شعرت باستياء واستهجان كبيرين من أولئك الذين يبشرون بانتهاء حقبة الولايات المتحدة الأمريكية وضمور الغرب وانكفائه على نفسه. لطالما داعبت تلك الخيالات أشخاصاً يموتون هياماً في أن يعيث في الأرض الشعبويون والأفاقون والثقافات الغامضة التي لا تعدو أن تكون مصانع وورشاً بلا حياة وبلا أمل، وهي بدون مصانعها لن تكون إلا كما قدر لها عبر عصور التاريخ والحضارات في كل دوراتها: صناديق مغلقة تكتنز بواطنها الكثير مما لا تفصح عنه سحناتها، يزعجها أن تكون ذات مسؤولية وتفضل أن تنأى بنفسها عن أي حراك لا يتماشى مع مزاجها الكئيب وطقوسها الغريبة التي يجد فيها المفلسون والمحبطون ملاذاً يخدر عقولهم ويمنحهم راحة واسترخاء.
جميع ثقافات البشر لديها فنونها وآدابها الشعبية وحكمتها، ولكن أغلبيتها الساحقة غير قادرة على تحويل ثقافاتها إلى مشروع وحلم كوني يصنع مزاجاً عالمياً وذوقاً يتجاوز حدود القارات.
أما الروم (ذات القرون) كما وصفها الرسول ذات مرة، فقد كانت عبر ثلاثة آلاف سنة دفقاً لا يتوقف ونبعاً لا ينضب (الروم ذات القرون كلما هلك منها قرن ظهر آخر)، منذ ما يزيد على أربعمائة سنة وشعوب البسيطة تنهل من حضارة الغرب وفلسفاته وآدابه وفنونه وقيمه وتشريعاته، سيبقى هذا الألق السحري مصدر إلهام للتغيير نحو الأفضل للإحساس بمعاناة الشعوب البائسة، لمحاربة الفقر ومكافحة الجهل، سنبقى مدينين قروناً للحضارة الغربية بمستوى الوعي الإنساني الرفيع بحقوق الإنسان وكرامته وتحرير المرأة، ولو أن مجتمعاتنا بقيت نائية بنفسها عن تأثير العالم الغربي لكنا اليوم في شر حال، ومع هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تجتاح العالم زُفَّتء البشائر بانهيار قريب للولايات المتحدة الأمريكية وانحسار عصرها وظهور قوى اقتصادية جديدة، ولكن ما يغيب عن المبشرين أن إرثاً من القيم والمبادىء وتراكماً معرفياً شكلته القرون هو ما صنع الحلم الأمريكي وليس شركة رهن عقاري أو بنكاً يكتنز البلايين.
إن كثيراً من هؤلاء الذين يعلنون اليوم ضمور ألق الولايات المتحدة بغبطة ساذجة لايستطيعون أن يعيشوا شهوراً في الصين ولا في الهند ما لم يكونوا سياحاً، ولكنهم قادرون أو يحلمون بأن يعيشوا البقية من أعمارهم في أصقاع القارة الجديدة وأرض الميعاد. ويسعون إلى أن يحصل أبناؤهم على أرقى تعليم في جامعات أمريكا لأنهم يعلمون أن الاستقرار والحرية وحماية القانون والمساواة والتعليم الجيد هو ما يصنع لهم حياة جيدة ومستقبلاً مشرقاً وليس لحظات التأمل وصالات اليوجا ومراكز المساج.
لقد أثبت الأمريكيون بانتخابهم لباراك حسين اوباما أنهم أمة عظيمة قادرة على أن تعطي العالم دروساً في المساواة والحرية وتجاوز الأخطاء والنهوض من جديد. فما أجمل أن نكون شهوداً على هذه التجربة وأن تنعم التقنية علينا بمتابعة فصول هذه القصة منذ بدايتها يوماً بيوم وساعة بساعة!
9/11/2008