في شهر شعبان عام 1406ه ، انصرفت من صلاة المغرب في مسجد حميدان جنوب السوق المركزي ببريدة على صوت مخنوق يستغيث أمام المدخل الجنوبي للمسجد. وفي الخارج رأيت صاحباً لي كان قد اعتكف في المسجد طوال الشهرين الماضيين بعد أن هجر تجارة الإبل التي ورثها من عائلته وأهمل بيته ولاذ بقراءة القرآن والتسبيح وقراءة سير المتصوفة والسلف الأوائل، كان خاله حاضراً يبعث الحماسة في موظفي الصحة النفسية الذين أوقفوا الباص أمام المسجد واقتادوا المسكين من رجليه وهو يضرب بهما كالذبيحة مثيراً الغبار والألم وكثيراً من الشفقة.وقد تلقى صديق لي لم يحتمل ذلك الموقف المحزن صفعات ساخنة من قريب الرجل بعد أن انخرط في معركة غير متكافئة لتخليص صديقه من قيوده.
كنت أعلم أن هناك عشرات أو مئات من أولئك المستهترين الذين تسببت لهم المخدرات والخمور بضياع بيوتهم وإهمال من يعولونهم، ولكنهم لم يخضعوا لمثل تلك الإجراءات القاسية من قبل أهاليهم. بدا الأمر وقتها وكأنه مكافحة لفشو نزعة من التصوف والدروشة لاتتواءم والمزاج الاجتماعي والديني العام، وكما كان متوقعاً فإن صاحبنا الذي كان مشروع درويش قد تخلى عنه الجميع من أولئك الذين جمعته بهم الألفة والأخوة في الله.
في سوق الوسعة وقبة رشيد وفي المجلس والجردة، كانت الحوانيت والدكاكين الممتدة على جنبتي السوق والمباسط المنتثرة في كل رصيف تحوي أشخاصاً مشهوداً لهم بالتقوى والعبادة والورع، وكان أبناؤهم يغدون ويروحون على مرأى من آبائهم يطوفون بين المتسوقين منذ ساعات الصباح الباكر وفي أيام الخميس والجمعة ينادون بكلمات لاتكاد تبين معلنين عن بضائعهم من المناديل والمناشف والجوارب، وتصيبك الدهشة من ذلك طفل لايتجاوز الخامسة وهو يُماكسك على النصف ريال ويوضح لك بطريقة أخاذة تأسر القلب أن الثمن الذي تقترحه لايفيده ولايخارجه.
هي مظاهر تكاد اليوم تتلاشى بعد التحول الاجتماعي والثقافي الذي يعيشه المجتمع منذ سنوات. كنت ترى عباداً وأتقياء يعكفون على إصلاح الساعات أو بيع القهوة والغتر والمشالح أوالبخور الهندي.ويقضون أوقات فراغهم مابين التسبيح أو قراءة القرآن أو مطالعة الكتب أو تدريس أبنائهم القراءة والكتابة.
وفي ضحى يوم من أيام 1409ه صحبت صديقاً لي في زيارة إلى رجل ثري في حي الخليج له ابن أخت زاهد رفض أن يقبل أرضاً في منطقة تجارية ورثها من أمه في السالمية جنوب بريدة، لأنه كان يظنها هدية من خاله الحنون ولا حق له فيها مؤكداً أن والدته ماتت وهي لاتملك هذه الأرض، أقسم الخال أن الأرض هي لابن أخته وأنه ليس له يد فيها، وقام بإحضار دفاتره وقرأ علينا نصيب ابن أخته من الوصايا والأسبال التي تراكمت عبر ثماني سنوات وهي لاتتجاوز الألف ريال.
بعد سنتين من هذا اللقاء كنت مع صديقي نفسه ليلة عيد الفطر نفكر في طريقة يستطيع بها شراء ثوبين جديدين لطفل في السنة الخامسة من عمره كان والده الذي لايرتاد الأسواق قد اشترط أن يكون ثوب العيد من الملابس الصينية الرخيصة الجاهزة، محذراً أن يختاروا للصبي ثياباً لاتليق إلا بأبناء التنعم والتكسر، ولكننا توصلنا إلى حيلة يمكن بها شراء ثوبين من الدفة أو الأصيل تليقان بالطفل بين أبناء خالاته وأقاربه يوم العيد، والادعاء أمام أبيه بأنهما من النوع الصيني الذي اشترطه ولكن الزمن قد تغير والنوعية قد تحسنت لأن الناس أبناء أزمانهم، وهذا هو المتوفر في المتاجر.
هذه القصص والوقائع التي أحكيها وغيرها مما لم أذكره وكنت شاهداً عليها أو ناقلاً لها عن العارفين بها تفصح عن شيء واحد: أن لوثة من التصوف السلوكي الفردي تسربت عبر الثقوب والشقوق والزوايا المعتمة في الحمى والسياج المحكم الذي لم يكن يسمح بترعرع هذه النزعة لتشكل فكر جماعة أو أفراد وتتحول إلى طريقة ؛ فطبيعة الحياة القاسية وشظف العيش في السابق لايسمحان بنمو “الدروشة” في بيئة يحتاج فيها الإنسان إلى العمل اثنتي عشرة ساعة ليضمن لقمة عيشه وسد جوعه، ولطالما كان التصوف الذي يترجم خمولاً في النشاط وتواكلاً على الغير وانزواءً عن الخلق والتصاقاً بسواري المساجد نوعاً من الرفاه الحضري الذي يجد أرضه الخصبة في الحواضر الكبرى الراسخة في التمدن، حيث الأربطة والخانقاه والزوايا التي تعتمد على أوقاف ثابتة تضمن جريان الرزق وسد الرمق في حدوده الدنيا مفسحة المجال للمتصوف للتأمل والانعزال. لهذا كانت عبارة أحد الرحالة الغربيين في أواخر القرن التاسع عشر وهو يصف المجتمع النجدي وبريدة على وجه الخصوص بأن الناس لايعرفون سوى الصلاة والعمل، هو صادق إلى حد بعيد ولو أننا استمعنا إلى شهادة بعض تجار العقيلات الذين قامت مؤسسة أحد الصوتية بتسجيل شهادتهم في جزءين لرأينا كيف أن الجميع كانوا يتحدثون عن شيئين :صدق الديانة والضرب في الأرض للتجارة، الأمانة في العمل والبعد عن الشبهات الأخلاقية كما جاء في شهادة محمد البراهيم العويد وهو يحكي قصة مؤثرة حدثت لأحد تجار العقيلات في حيفا مع يهودية فاتنة.
قد يكون عبدالكريم الفارسي المعروف بالدرويش خير مثال على ما أتحدث عنه، وهو مهاجر إيراني استوطن نجداً في بدايات القرن الهجري الماضي وروت كتب التاريخ والتراجم عنه قصصاً كانت تسرد على سبيل الفكاهة والطرافة أكثر من كونها أمثلة تُحتذى، مثل حكايته مع الماعز التي قام بطردها من بيته بعد أن تلقت منه عدداً من الصفعات على وجهها لأنها تسببت له بفوات صلاة العصر مع الجماعة. الورع العقدي في استخدم الألفاظ والعبارات بقي مشرع الأبواب ويلقى الترحيب والإشادة حتى ولو كان استدراكاً على كبار الأئمة المعتمدين في المذهب، خلافاً للجانب الآخر من الورع السلوكي والأخلاقي والمعاملاتي، وهذا هو السبب في وفرة المباحث قديماً وحديثاً التي تختص بتتبع الشطحات العقدية الفكرية الكلامية وتستدرك على العبارات وتشدد في استخدام مصطلحات كلامية اعتُبرت دخيلة على عقيدة السلف، وجرى التقاطها من مؤلفات وشروحات اعتمدت في المناهج مثل شرح العقيدة الواسطية لمحمد خليل هراس، وشرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، وفي عام 1406شهدت نقاشاً في حلقة عبدالله الدويش حول عبارة جاءت في كتاب التوسل والوسيلة لابن تيمية تفرق بين طلب الاستغفار من الرسول عند قبره، وبين سؤاله مغفرة الذنوب، اعتبر ابن تيمية الأول بدعة مضلة والآخر شركاً، رغم أن أحد كبار العلماء النجديين ومن أكثرهم احتراماً وهو حمود التويجري نقلها عن ابن تيمية في “الإجابة الجلية للأسئلة الكويتية” موافقاً له، إلا أن ابن باز كان هو الفيصل في الموضوع فقد قام وفد من الطلبة بزيارته في الرياض وكان له قول آخر يجمع بين الرأيين ليس هذا مجاله.
ويأتي كتاب “تنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة” الذي ألفه سليمان بن سحمان مستدركاً به على عبدالعزيز بن محمد بن مانع، وكتاب “معجم المناهي اللفظية” لبكر أبوزيد، والبحث الشهير لسفر الحوالي في عام 1405ه حول الأشاعرة وهل هم من أهل السنة أم لا ضمن هذا السياق، وقد قوبل بترحيب كبير في أوساط العلماء والمختصين في العقيدة رغم أنه كان في بعض فصوله استدراكاً على اثنين من كبار علماء السعودية أحدهما عبدالعزيز بن باز الذي كان أحد المرحبين برأي الحوالي.
وهذا خلافاً للورع في السلوك والأخلاق والمعاملات – الدراسات والفتاوى التي تصدر مؤخراً بتحريم الاستثمار في أسهم شركات معينة وتشجيع الاستثمار في أخرى، هو منافسة بين الشركات وُظِّفت فيها الفتوى الدينية- ولهذا كانت ردة فعل عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب القاسية على رسالة حمد بن عتيق التي يعيب عليه فيها انشغاله بالزرع والفلاحة وهو في أرذل العمر. كان رد ابن حسن في رسالته التي نشرت في طبعة الملك سعود من كتاب الدرر السنية يتضمن استعراضاً لسيرة الرسول والسلف الذين استغنوا بطلب الرزق والتجارة عن التذلل والتسول.
يعود هذا في رأيي إلى أن دعوة محمد بن عبدالوهاب هي في الأساس قائمة على تصحيح الاعتقاد وإحياء مذهب السلف، لهذا شهدت تآليف النجديين من بعده ازدهاراً في كل ماله صلة بهذا المجال، من أصول الدين الكبرى إلى أدق المسائل التفصيلية، يأتي في المقام الثاني بعض الشروح والتعليقات الفقهية لأنها تشريع للواقع الاجتماعي الذي نشأ بعد قيام الدعوة ولأن كثيراً من الأبحاث الفقهية كانت ذات علاقة ماسة بالحكم العقدي والعكس كذلك، فإن بعضاً من مسائل الاعتقاد هي مسائل فقهية نقلت من مجالها الاختلافي الفقهي إلى صعيد الخلاف العقدي. ولكن حركة التأليف كانت تعاني ضموراً في الجوانب الأخرى وفقراً ..
ومرة أخرى سأضطر إلى تأجيل الحديث عن إحياء علوم الدين للغزالي ومختصراته إلى مقال قادم يسمح بشرح الفكرة بشكل أوسع.
8/9/2008