في أصيل يوم قائظ من شهر رمضان 1404للهجرة كنت مع عشرات من الزملاء في المركز الصيفي فلمحت على سفرة الإفطار عشرات النسخ من كتيب صغير عنوانه (توضيح المعاني..اختصار الفتح الرباني والفيض الرحماني) وهو تلخيص لكتاب ألفه عبدالقادر الجيلاني الحنبلي الذي عاش في القرن السادس الهجري، ويدور حول آداب السالك المتصوف وأحوال القلب، رأيت هذا الملخص بعد ذلك في رفوف عدد من مساجد بريدة.
كانت الكتب التي تحكي قصص المتصوفة والنساك مثل (حلية الأولياء) لأبي نعيم و(صفوة الصفوة) لابن الجوزي، جزءاً من كتب المطالعة التي يتعهدها طلبة العلم وغيرهم من المطوِّعة ممن لديهم ميول لاحتذاء سير أئمة السلوك والعارفين ينضاف إليها بعض الكتب التي يأتي في مقدمتها الاستقامة لابن تيمية و(طريق الهجرتين) و(مدارج السالكين) لابن قيم الجوزية. هذه الكتب يجد فيها عشاقها غذاء روحياً يرطب جفاف قلوبهم ويحلق بالنفوس المنهكة في أجواء من الصفاء يمنح الإنسان طاقة دفاقة من الرضا والسكينة.
ربما الواعظ الوحيد في نجد والمنطقة الوسطى الذي بقي عقوداً من السنين وفياً لطريقة تمزج مابين الرقائق والترغيب والتخويف والقصص مضمناً كلماته اقتباسات مطولة من كتب التصوف والعارفين هو فهد بن عبيد آل عبدالمحسن ( 2001/9/13م) كنت قد زرته في بيته في ربيع ( 1408هج)، فأطلعني على بعض أوراقه التي يكتبها بخط يده بحبر خاص مستخدماً أكثر من لون، فقال “لن يبقى منها شيء بعد رحيلي، لقد أوصيت بإحراقها جميعها”. كان العبيد قد توقف قبل سنتين من هذا الحديث عن مجالس وعظه العامة في المساجد، واكتفى بمجالسه الخاصة التي لايحضرها إلا من عرفه مرتجلا كلمته أحياناً وقارئا في بعض الأوقات حتى أثقله المرض في أيامه الأخيرة. قد يكون الشيخ فهد العبيد متفرداً بشيء آخر امتاز به طوال التسعين عاما التي أفناها في دنيانا، وهو أنه رغم حنبليته وولائه العميق والمتجذر لأئمة الدعوة النجدية كان الأكثر عرضة لتأثير رؤى خاصة قال بها بعض أئمة التصوف فحواها أن العامل الرئيس لنجاح الطالب في فقه الشريعة وإدراك معانيها يعود لصفاء الروح فالأمر منوط بنور الإيمان الذي يُزهر في قلب المؤمن الصالح وبصيرة القلب التي ينظر بها مستدلاً بآية سورة البقرة (واتقوا الله ويعلمكم الله)، ولهذا كان لفهد العبيد رأي يجد جذوره في بعض عبارات ابن تيمية، وهو أن المتفقه الناسك العارف بالله إذا كان تحصيله في علوم الشريعة متواضعاً قد يكون أكثر قدرة على معرفة أعقد المسائل العلمية التي لايفك مغاليقها كبار العلماء الذين قد يتلطخون ببعض الذنوب ويقارفون الموبقات أو من لاتختلف حياتهم العملية وممارستهم للدين عن سلوك العامة.
إن تعريض المتفقه والمتدين (السالك) بشكل مستمر ومتجدد لتأثير حكم المتصوفة وإشراقات العارفين ونوادرهم التي تعرّي النفوس اللوّامة، وتحاصر الخواطر الآثمة وتثير الانتباه لطرق اصطياد السالك والعقبات والعوائق والعلائق التي تتربص به في طريق الغربة إلى الله، قد تزيد حماسته وتلهب مشاعره ولكنها أيضاً تمنحه سياجاً وحماية من الانزلاق إلى مهاوي الرذيلة في لحظات الضعف الإنساني، فلا يستمرئ النفاق فيعلن التقوى ويبطن الفجور، كما أنه لكثير من أئمة السلوك عبارات تخفف من غلظة المتدين وقسوته على من يراهم أقل منه التزاماً، وتلفت انتباهه إلى عيوب نفسه، وتبلغ هذه الحكم ذروة الجمال والتألق حينما يؤكد ابن القيم أن العبد قد يكون أفضل له أن يذنب ويقع تحت تأثير الشهوة والرغبة حين يبلغ به الغرور ورؤية النفس حداً يحمله على احتقار الخلق ورؤية العمل والمنة على الله، فالعبد العاصي قد يكون أكثر انكساراً وتذللاً وقرباً إلى الله منه وهو شامخ بأنفه متعال على الخلق ينظر في عطفيه.
ولابن قيم الجوزية عبارات تضاهي قصيدة الناي الشهيرة لمولانا جلال الدين الرومي الذي توفي قبل ولادة ابن القيم بعشرين سنة تقريبا، وقصيدة الرومي تحكي شجى الناي وحزنه في غربته بعد أن عزل عن غابته والشجرة التي اقتطع منها، والقصة نفسها تجدها في قصيدة ابن القيم الميمية التي يحكي فيها قصة الغربة التي يرزح الإنسان تحتاه من حين أخرج من جنته وتسبب العدو إبليس بطرده وأبيه آدم من الجنة.
انحسر هذا الاهتمام بكتب الرقائق ومجالسه بشكل تدريجي لدى معظم المطوِّعة في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة مع تنامي الصحوة الدينية منتصف الثمانينيات، ويعود هذا لعدة أسباب منها صعود السلفية الحديثية مع ناصر الدين الألباني السوري وتأثيرها الكبير والعميق في الإسلام السني الفقهي، والثاني هو طبيعة الخطاب الإسلامي الإحيائي في العقود الثلاثة الأخيرة والذي أصبح يعتمد لغة أكثر عملية ونفعية وأكثر انخراطاً بالواقع السياسي والاجتماعي، والذي نتج عنه أن ممثلي هذا الخطاب أصبحوا شركاء في صناعة الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بحيث لم يعد هذا الخطاب الوعظي الروحي القائم على رياضة النفس وتنقيتها منسجماً مع حقيقة دورهم في الواقع الاجتماعي.
في حالات قليلة كان البعض منهم يعمد إلى هذا الخطاب في بدايات مسيرته على الساحة ولكنه يتحول بعدها إلى الطريقة السائدة الآن :استخدام الوعظ لتهيئة المتلقي وشحنه وهو في ذروة ضعفه وحماسته الروحية وليونته تحت مطارق الوعظ لإعادة صياغته وتوجيه اهتمامه نحو أشياء أخرى لاعلاقة لها بالسماء بل بأهداف أرضية وشحناء شخصية وحزبية تُصوَّر للمتلقي على أنها هي سبيل خلاصه.
وباستثناء ثلاثية صوتية هي (شكاية الموحدين) وسلسلة أطول منها وهي (البكاء من خشية الله) وهي أيضا مجموعة محاضرات مسجلة، للسوري عبدالرحيم الطحان الذي كان يعمل أستاذاً بكلية التربية في أبها، حتى بداية التسعينيات الميلادية، ومثلها عدد من المحاضرات لمحمد المختار الشنقيطي الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة فإنني لم أعثر في معظم ما أنتج في العقدين الماضيين لغالبية الأسماء الشهيرة على الساحة الدعوية، على تأليف أو تسجيل يضاهي ماقدمه الطحان والمختار الشنقيطي. العامل الأكبر في هذا التفرد لديهما يعود إلى مواصفات شخصية لديهما لم تتوفر في الآخرين. قد يكون منها شعور المستمع بأن بكاءهما وتحشرج الكلمات في أفواههما هو شيء حقيقي ونقي غير مصطنع.
أقام الطحان في السعودية سنوات طويلة منذ يفاعته في أوائل السبعينيات الميلادية إلى حين مغادرته البلاد أوائل التسعينيات، درس في السعودية على عدد من علمائها مثل عبدالله بن محمد بن حميد، وحاول المواءمة بين نشأته الصوفية وبين مايمكنه البوح به في بيئته الجديدة، متخذاً طريقاً وسطاً مازجا بين توجهين متضادين ولكنه أخفق في النهاية في كبح لسانه عن إطلاق عبارات سببت له مشاكل كثيرة وخلقت له أعداء من زملائه في الجامعة ومن غيرهم.
قمتُ العام الماضي بإعادة قراءة كتاب (مدارج السالكين)، ربما يكون ابن القيم قصد من شرحه لمنازل السائرين للهروي الحنبلي توفير بديل عن الكتب التي أثارت جدلاً كبيراً وصل إلى حد تكفير مؤلفيها، وهذا يتضح أكثر في محاولته الذكية لإيجاد تأويلات مستساغة لعبارات في منازل السائرين أثارت التساؤلات حول حقيقة معتقد الهروي، وفر ابن القيم بكتابه هذا بديلاً عن الكتب التي كانت وأصحابها مثار جدل واسع كان شيخه ابن تيمية أحد فرسانه، ولهذا جرت العادة دائما بتسامح الحنابلة المتأخرين والمعاصرين الكبار عن معظم كتب سير التصوف ومؤلفات متصوفة نالوا تزكية من الشيخين ابن تيمية وابن القيم.
وفي الثلاثينيات الميلادية/ الخمسينيات الهجرية ألف الشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبدالمحسن (عقود اللؤلؤ والمرجان في وظائف شهر رمضان) بعدها أصبح هذا الكتاب هو المعتمد للقراءة في ليالي رمضان بمساجد المنطقة الوسطى ونجد، وفي معظم المساجد في المملكة طوال خمسة عقود. من أسباب هذه الحظوة التي امتاز بها كتاب العبيد -وهو شقيق فهد العبيد السالف الذكر- هو الأسلوب الذي كُتب به وهو يشابه أسلوب ابن الجوزي في المدهش وبستان العارفين، ولهذا يقال إنه اقتبس معظم العبارات من كتاب التبصرة في أحوال الآخرة لابن الجوزي، رغم أن الكتاب لم يخلُ من السجع أسوة بالطريقة التي كان يكتب بها المتقدمون.
لم يعد هذا الكتاب منذ التسعينيات هو الخيار الأوحد في ليالي التهجد في رمضان، واليوم لايكاد يعرفه أحد عدا بعض أئمة المساجد القدامى الذين لم يعبأوا بكل الانتقادات التي أثيرت حول الكتاب ..
ورغم المطالب والنقاشات التي تتكرر على مسامعهم مع كل رمضان جديد، فمع تنامي الاهتمام بالحديث وتمييزصحيح السنة من ضعيفها والتأثير الكبير للألباني تعرض الكتاب ومؤلفه لحملة انتقاد واسعة، عضدتها انتقادات أخرى لعبارات اعتبرت غيرلائقة عقدياً، وهي عبارات تسربت إلى الكتاب من مصادره التي اعتمد عليها، ومعظمها من كتب الرقائق والتصوف والكتب التي اختصت بتراجم السالكين والعبّاد، ورغم المؤلفات الكثيرة التي صدرت لتكون بديلاً “أكثر نقاء”، إلا أنها لا تتمتع بالعبارة العميقة والشفافة والذائقة الراقية لدى أئمة السلوك وأحوال القلوب التي تجدها منثورة في صفحات الكتاب. عشرات الكتب التي ألفت لتعويض النقص الذي تركه الكتاب بدت متكلفة. انحسار الحظوة التي نالها الكتاب طوال عقود كان فيها محل الرضا والثقة من علماء السعودية الكبار طبع فيها عشرات الطبعات وانتشر خارج الجزيرة العربية رافقه انحسار آخر في كتب الوعظ الأخرى التي كانت ملخصات لكتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي وهو ماسوف يكون موضوع حديثي في المقال القادم.
20/8/2008