منصور النقيدان
في نهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي قامت محكمة التمييز في العاصمة الرياض بالتصديق على حكم التفريق بين منصور التيماني وزوجته فاطمة العزاز، بعد أن ثبت عند القاضي أن التيماني لاينتسب إلى قبيلة معروفة، فأصدر حكمه المجحف مدمراً ثلاث سنوات من حياتهما رزقا فيها بطفلين، وقبعت الزوجة في زنزانتها وهي حبلى بطفلتها الثالثة ثمانية شهور بسجن شرقي البلاد معلنة رفضها للانصياع لرغبة أقاربها الذين وجدوا في القضاء حليفاً وداعماً، حتى أسدل الستار على نهاية تلك القصة المؤلمة بإخضاع الزوجة البائسة لجلسات علاج روحاني يفك طلاسم السحر، ويطرد الأرواح الشريرة لتأهيلها للخروج أخيراً إلى منزل أخوتها.
وشهدت المحاكم السعودية مؤخراً دعاوى بفسخ عقود زيجات صحيحة، لأسباب أخرى مشابهة مثل اختلاف العرق واللون، على رغم تراضي الزوجين وموافقة أحد الأولياء، ولكنها تمت على كره من أبناء عشيرة المرأة الأدنين وشِيْبِها المُغاضبين.
لقد ترعرعت في منطقة القصيم وسط السعودية، وبعد أن تجاوزت مرحلة الطفولة وخطوت نحو سن البلوغ رافقت ميولي الفطرية نحو الإناث، طقوس الإفصاح عن سر اجتماعي بالغ الرسوخ وشديد الإحكام والنفاذ، يُوارى أحياناً ويعلن تارة أخرى، فأحدثت لحظة اكتمال وعيي بتلك الأعراف الاجتماعية المفصحة عن تمايز أبناء العوائل المتجاورة في أصولها استغراباً واندهاشاً، واستحال ألما عميقاً بعد أن تكررت على مسمعي في مجالس الأصحاب شتائم متبادلة أُطلق فيها العنان لكل ذلك المخبوء المكبوت من التصورات التي يحملها كل طرف عن الآخر، المشبعة بالفروق بين أبناء القبائل ‘’الشيوخ’’ وغيرهم من «الخضيرية» و’’العبيد’’، وأن ثمة تمايزاً بين الفئتين في نمط العيش في بيوتهم، وتدبير المال وادخاره، وعذوبة الصوت وقبحه، وعفة النساء، و’’سماحتهن’’، والمهن التي يزاولها أبناء كل فريق.
وكشفت لي تلك الشتائم عن صندوق الأعاجيب الذي أحكم لجمَه ومواراتَه خفرٌ منبعه الدين، وتقاليد اجتماعية أحكمت وئام المجتمع الصغير الذي يحكمه الاقتصاد ويملك زمام أمره عصبة التجار المختلطة ممن صبغوا مدينة ‘’بريدة’’ وغيرها عبر عشرات السنين بتلك الروح التنافسية على المجد، حيث ذبلت أوهام مجد القبيلة وشرف الانتساب إليها، وتقهقرت منكسرة أمام مجد الذهب والفضة وسطوتهما. وعلى مشارف الثانية والعشرين كنت قد صرفت النظر عن أحلام راودتني بالارتباط ببعض من فتيات مدينتي اللواتي ينتمين إلى عوائل ذاوت امتياز قبلي ونسب متسلسل بعشرات الآباء، ممتد إلى إسماعيل بن إبراهيم أبي الأنبياء الأعجمي، بينما لم أكن أحفظ من سلسلة نسبي إلا ثلاثة من الآباء، انضاف إليهم ثلاثة آخرون شرفت بمعرفتهم السنوات الأربع الماضية. لكن معرفتي بتلك المواضعات الاجتماعية لم تكن لتمنحني الوعي العميق لكشف تلك الغشاوة الرقيقة التي تواري تحالفاً وثيق العرى بين القبيلة والدين الذي يشكل القضاء صورته المجسدة، وواقعيته بمأساويتها، ويستمد قوانينه وأسسه من الشريعة الإسلامية في بلد يفاخر أنه الوحيد الذي يلتزم بحرفية تعاليم القرآن وإرشادات الرسول محمد (ص).
إن ما يبعث على التفاؤل أن محامياً مناضلاً مثل عبدالرحمن اللاحم وهو يتولى منذ سنتين الترافع في مثل هذه القضايا يعلن أنه لن يستسلم، بل سيواصل معركته دفاعاً عن الحقوق المنتهكة، يتضامن مع اللاحم عشرات من المدافعين عن حقوق الإنسان والكتاب، تتضافر جهودهم اليوم لإيجاد تشريع يحول دون تكرار مثل تلك الأحكام القضائية المخجلة التي تمنح الرجل وحده من دون المرأة حق تطليق أخته أو بنت عمه من زوج أحبته ورضيت به بسبب التفاوت القبلي. وجاءت ثمار إصرار اللاحم وجهوده بإعلان خجول من وزارة العدل مؤخراً أنها بصدد إصدار قرار يحـــول دون رفـــع دعــاوى تفريق بين زوجين مـــتراضيين إلا بطلب من أحدهما.
لم يكن القضاء يجرؤ على إصدار أحكام تفريق قائمة على التمايز العنصري أو التفاوت القبلي، طوال فترة حكم الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز، ولكن انبعاث النعرات القبلية عقيب حرب احتلال الكويت العام ,1990 وازديادها بشكل طاغِ تمثل في مجاميع سنوية يعقدها أبناء العوائل المتحضرة من ذوي الأصول القبلية، يتم فيها التحقق من صحة أصول بعض المنتسبين إليها، وإنشاء صناديق خيرية تقصر الاستفادة منها على أبناء قبيلة من دون غيرهم، رافقه انبعاث للشعر الشعبي الذي يعبر عن أحلام تلك القبائل ويحكي أمجادها ويستعيد أصوات صيحات غارات النهب والسلب في العصور المظلمة قبل تأسيس المملكة الثالثة على يد الملك عبدالعزيز.
واليوم بإمكانك أن تتصفح عشرات المواقع على الشبكة العنكبوتية، تحكي أساطير كل قبيلة، وبطولات فرسانها، لقد أحدثت صحوة الأعراب، إرباكاً وشعوراً بالضياع لدى شريحة واسعة، لا تنتمي إلى قبائل عربية معروفة، ترجمته عشرات طلبات إثبات الانتساب إلى قبائل معينة غصت بها المحاكم الشرعية نهاية الثمانينات وأوائل التسعينات، وبدا الأمر مثيراً للشفقة حينما أقام بعضاً من تلك الدعوى أبناءُ عوائل كان منهم من يفاخر في المجالس الخاصة بأصوله التركية أو الفارسية، حتى تحين ساعة الشرف فيصدر صك الإثبات بعد إجراءات طويلة ومعقدة، يُحشد لها شهود الزور ويستأنس فيها بصعاليك النسابة، ويقابلها أحياناً اشمئزاز ورفض من أعيان وممثلي العشائر والقبائل، حتى يخضع أولئك الذين اكتشفوا أصولهم مؤخراً أنفسهم لدورات من داخل البيت ينهجون بعدها طريقة في الحديث مختلفة، وهيئة في الزي محدثة تقحمهم برمز لقبيلة من دون أخرى، وتحملهم على إعادة تصنيف أصهارهم وفق طبقية جديدة تجعلهم أكثر
هوساً بالقبيلة من نظرائهم الأصلاء.