“أصعب شيء في الحياة أن تكون أنت”. هذا ما راهن عليه منصور النقيدان. طرق كل باب ليتعرف على نفسه، وفي كل باب يُطرَق عليه تسكن خلفه ألف حكاية وحكاية.
ومع كل باب يعيش كل الصراع، وما يلبث إلا أن يبحث عن باب آخر، تحمّل كل شيء لأجل أن يدلف مع الباب الحقيقي إلى عالم يجد فيه نفسه وكوامنه.
تحمّل كل شيء، السجن وانتظار الموت إما حرابة أو تطرفاً، ومع ذلك لم يفقد إيمانه بأنه”منصور”، مع دخول ابنه المدرسة آمن أن لا شيء مستحيل وأن كل شيء يستحق.
منصور النقيدان ورحلة التحولات من الإخوان إلى الجابري مروراً بتشارلز ثيرون للوصول إلى حيث يكون هو في هذا الحوار… فإلى التفاصيل.
> ماذا يمنحك اسمك، شجاعة أم بشرى؟
– بعض أحبابي يقولون لي أحياناً: منصور نصرك الله، في سنوات مضت كنت سعيداً بأن منصور ليس من الأسماء المبتذلة، فكان يكفي بين مجموعة كبيرة من المعارف أن يلفظوا اسمي ليعرف من هو المقصود من دون الحاجة إلى أن يقال منصور البراهيم، كما يحصل مع الأسماء الأخرى التي تتكرر بشكل مزعج في العوائل النجدية.
قبل سنوات كنت أحب أن أنادَى بكنيتي كما هي العادة، في الفترة الأخيرة بدأت أضيق بالكنية وأكرهها حتى قبل ولادة ابني يوسف بفترة، لهذا نفرتي من الكنية مستمرة معي حتى اللحظة هذه، لماذا يجري التعريف بي عبر كوني أباً؟
ربما هذا كان يتوافق مع الطبيعة القاسية التي عاشها أسلافنا حيث كانت المواليد قلما يكتب لها الاستمرار في العيش، وكون الرجل له ابن يعني العزة من هوان والقوة من ضعف وضماناً له في شيخوخته حينما يجد من يرأف به ويحوطه، لهذا كان التكني بأكبر الأبناء نوعاً من التكريم والاحترام، اليوم لا معنى لهذا، إنه أشبه بأن تنادي شخصاً بأنه”أبو خشم”أو”أبو راس”.
> هل كل”بريداوي”مشروع جدل كبير؟
– ليس بالتأكيد، هناك ضجيج يحدث حول بعض الأسماء داخل القوقعة المحلية، وهذا لأن القليل من الاختلاف يحدث كثيراً من الثرثرة، وطنين الذبابة يعتبر حدثا ضخماً. أهل بريدة يبالغون في الحديث عن أنفسهم وتأثيرهم في منطقتهم وأحياناً يهيمون في أعطافهم حينما يغرقون في شرح الفروق النفسية والاجتماعية والثقافية التي تميزهم عن جيرانهم الذين يبعدون عنهم 8 كيلومترات، ومعظمهم من أبناء عمهم وأنسبائهم. بينما في الحقيقة أنه منذ ما يقارب 150 عاماً وبريدة عرضة لمهب رياح التغيير الديني والثقافي والاجتماعي التي تفد إليها من العارض والرياض والشام وجنوب العراق. تعرضت تركيبة بريدة السكانية لتحوُّل هائل كبير، كانت الموجة الأولى في نهاية الأربعينيات الميلادية، والثانية منذ منتصف التسعينيات الميلادية.
بريدة تنقص من أطرافها بشكل مثير أحياناً لحزن الذين عرفوها من أهلها قبل ثلاثة عقود. الأهالي الجدد يشقون طريقهم للحصول على اعتراف أولاً والمنافسة على الوجاهة الموهومة تالياً. اليوم الصوالين والملتقيات هي من وجوه هذا التنافس. قبل أشهر احتفت مواقع على الإنترنت بوجه جديد لكاتب متحرر يسكن بريدة، ولكن تم تجاهله إلا في مواقع قبلية تنتمي شريحته الاجتماعية إليها.
ليس من أهل بريدة من أصبح مثار جدل كبير إلا عبدالله القصيمي. والقصيمي منذ بلغ العاشرة تقريباً لا صلة له ببريدة، وحتى قبل 20 سنة تقريباً كان مثقفو بريدة، والقصمان يخجلون من ذكره ويجبنون عن امتداحه إلا أفراداً قلة وبعيداً عن العلن. الآن أصبح امتداح القصيمي موضة، وهناك تباهي بانتمائه إلى خب الحلوة. لكن القصيمي تشكلت أفكاره بألوانها وتمت تحولاته وكتب كل مؤلفاته في بيئة ثقافية بعيدة عن بريدة وعن الجزيرة العربية. وقل مثل ذلك في الأسماء الأخرى التي اشتُهرت خارج السعودية.
اليوم الإنترنت تساعد كثيراً في الشهرة ولفت الأنظار ولكنها تبقى شهرة سريعاً ما تخبو. إن ما يثير جدلاً حقيقياً هو الأفكار الأصيلة، وليس الضجيج والادعاء والترويج. نحن لم يتوافر لدينا بعد هذا الطراز الرفيع.
> كيف يعيش الناس في بريدة حتى يكون أبناؤهم بكل هذه الحدية؟
– يعيشون مثل بقية الناس في المدن الأخرى في وسط السعودية ويتعرضون للمؤثرات نفسها، ولكي تأخذ صورة أكثر شمولاً، فالثقافة والسياسة والدين تقوم عندنا على هذا الأساس، وهذا بسبب أن المجتمع خضع لعقود طويلة لتلقّي رأي واحد واعتناقه ومحاربة ما عداه. ولكي يجري التغيير فنحن نحتاج إلى زمن طويل. لكن بريدة لم تكن قبل عشرينيات القرن الهجري الماضي هكذا، كانت أكثر انفتاحاً وأوفر ألواناً. ولكن بما أنك تطرح سؤالك الخاص عن بريدة وتتساءل عن كيف؟ سأقول لك سراً: أهل بريدة وغيرهم من النجديين وربما يشاركهم في ذلك أجزاء كبيرة من الجزيرة العربية يخشون تاريخهم، يقلقون من سرد التاريخ وتتبعه ومعرفة تفاصيل تاريخ آبائهم وأجدادهم كيف نشأت مدينتهم وكيف واجهوا قسوة الحياة، والمهن التي احترفوها.
هناك ريبة وكأن كل واحد يخشى أن يُكشف له عن سر يفضل أن يبقى في ظلمة التاريخ المجهول، لهذا هناك تواطؤ خفي على الصمت أشبه بتلك الحال التي تواطأ عليها أهل القرية في فيلم The Village. ثمة أحجية أنا مغرم بمعرفتها وهي كيف تشكلت هذه المدينة؟
أحب أن أعرف أفواج الوفود التي استوطنتها من هم ومن أين قدِموا وأصولهم العرقية والجغرافية، وكيف انصهروا وتزاوجوا، وكيف نالت بعض العوائل الوجاهة والنفوذ وهي لا تنتمي إلى أصول قبلية بحيث تفوقت على أخرى قبلية أكبر امتداداً منها، ولكنها حتى اليوم لم تزل تعيش على الهامش، وعن تفاصيل الصراعات الدينية التي حصلت منذ أواخر القرن الـ 13 الهجري حتى نهاية الثلاثينيات من القرن الهجري الماضي.
إذا تسنت لك فرصة اقتناء كتاب فتنة القول بتعليم المرأة لعبدالله الوشمي، سوف تجد هذه الريبة التي فسّرها هو نفسه في لقائه مع تركي الدخيل في قناة”العربية”، الأبناء يستاءون من ذكر حقائق كان آباؤهم يفعلونها بشكل اعتيادي ومعلنة، وربما كانت هذه هي سبب وجاهتهم في تلك الفترة، ولكنهم اليوم لا يرغبون في ذلك. يجري الأمر وكأننا نخلق ذاكرة جديدة مع كل تحول يضرب الثوابت الاجتماعية، مع رغبة منظمة بالتناسي ومحو ما حصل وانخراط في التكاذب التاريخي حتى يتحول حقيقةً يستند إليها، هذا محزن للغاية.
الآن كتاب أسر وعوائل بريدة لمحمد الناصر العبودي جاهز للطباعة وهو كتاب ضخم جداً، وأتمنى أن يجيب عن بعض هذه الأسئلة. هذه الريبة والتوجس ليسا خاصين بمجتمع بريدة، فبريدة كانت مثالاً فقط. الإعلام تتلبسه أحياناً هذه الروح، قبل سنوات كتبتُ عن جهيمان العتيبي، ولكن الزملاء في الصحيفة أفهموني أنهم لا يريدون مشكلات مع عائلة جهيمان، لأنه سبق أن اتصلت بهم سيدة تبكي وتقول لهم:”خلاص يكفي، نريد أن ننسى ما حصل”.
أنت تعرف أن بعض الأسماء الليبرالية المعروفة هي من بريدة، ولها إسهام في بناء ديموقراطية الأفكار في الأوساط المثقفة السعودية. لكي تعطي شرحاً مقارباً لحال فكرية ونفسية تحتاج إلى دراسة عميقة، وأنا لا أملك هذه الميزة.
إخوان بريدة.. والحياة الجديدة
> ما أكثر شيء يزعجك عندما تتذكر وجودك ضمن”إخوان بريدة”؟
– لا شيء يزعجني أكثر من كوني لم أكن قد بلغت مستوى من الوعي يدفعني إلى تسجيل كل تفاصيل تلك المرحلة التي استمرت خمس سنوات فقط، وعشتها بكل أحداثها الحاسمة في تاريخ الجماعة، الإخوان الذين أكتب أو أتحدث عنهم أحياناً.
هم في حال انقراض ليس كأفراد بل كحال اجتماعية ودينية، لم يعد لهم وجود اليوم تقريباً، لهذا تتعاظم حسرتي. في تلك الفترة لم يكن متاحاً لي استخدام التسجيل الصوتي أو التصوير الضوئي أو كاميرا الفيديو. كان كل ذلك محرماً. أتمنى لو أنني كنت أكتب يومياتي. هذا الوعي لم يبدأ معي إلا عام 1998، لهذا أكتب بين الحين والآخر يومياتي ولكن بشكل متقطع. وأنا الآن أكتب مؤلفاً عنهم ولكنه لم يكتمل. أعود إليه بين الفينة والأخرى.
> هاجرت بقناعاتك من أدنى”اليمين”إلى أقصى”اليسار”… مماذا تشتكي منطقة الوسط؟
– أنا لم أزل وسطياً منذ عرفت نفسي.
> الدكتور الجابري… هل هو المنعطف الأهم بحياتك؟
– الجابري استفدت من كتبه كثيراً، ولا أدري هل هو المنعطف الأكبر في حياتي أم لا؟
> تقول:”أنا مؤمن بالله، ولكن فهمي للدين مختلف”هل ستخبرنا بوضوح عن هذا الاختلاف؟
– قريباً مما يُسمى إيمان الموحدين، وهو اليقين العميق بالله إله الكون ومدبره والمتصرف في نواميسه، وأنه منبع الجمال والانتظام والتوازن. أما الدين وتجسيده فالطرق إلى الله عدد أنفاس البشر وذرات الكون، لهذا كان الرسول صلى الله وعليه وسلم، يقول: ديننا واحد وشرائعنا شتى. فالفطرة هي دين الأنبياء وهي التوحيد.
> مقالة”هل كان ابن أبي دؤاد مظلوماً”كانت الشرارة التي أوقدت الدنيا من حولك… لماذا اخترت بيت الأسد؟
– مقالة بن أبي دؤاد كانت متواضعة فكرة وأسلوباً، ولكن ردود الفعل من الزملاء والأصدقاء والشيوخ لم أكن أتوقعها، أوشكت على الانهيار ولكنني تحاملت على نفسي وقررت الصبر والعناد وأتبعته بمقالات أخرى، لكي تخف الوطأة، فأفضل حل للخروج من آثار معركة هو الانخراط في أخرى، فهذا يصقلك ويقوّي عودك وتكتشف بعدها أن الزمن كفيل بحل كثير من الضغوط. الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
> تفكر بعلمانية، وتكتب بمصطلح إسلامي، وتتحدث بلكنة ليبرالية… هل من حيلة في الأمر؟
– أنا إنسان بسيط، ولا أظن أن هناك حيلة من قبلي. أكره أن يجري تصنيفي ضمن جوقة من الأسماء السعودية وإن كنت أتشارك معهم موقفاً واحداً في بعض القضايا.
أنا مؤمن عميق الإيمان أميل إلى المحافظة سياسياً، وأؤمن بالحريات الاجتماعية والشخصية والدينية وعدم التمييز ضد الأقليات الدينية والمذهبية، لا أتحمس كثيراً للكتابة حول قضايا المرأة لأنني أعيش التحرر واقعاً وهذا كافٍ في نظري.
سياسياً أنا أؤمن بأن الاستقرار والرفاه والتنمية هو أنفع من الانخراط في مطالب سياسية. عندي نفرة غريزية ضد الجموع والرعاع والأحزاب، أنا متحيز للنخب السياسية المستنيرة التقليدية فهي قادرة على إجراء إصلاحات حقيقية بشرط أن تكون منفردة بالقرار، وهذا قد يبدو محبطاً لبعض من يعجبهم بعض ما أكتب. أحب القراءة في الفكر الديني والتاريخ ويروق لي الكتابة حول هذه القضايا، أحياناً يكون لي بعض أفكاري الخاصة. وهذا كافٍ.
> 11 عاماً من الأخذ والرد تقريباً… ألا تؤرقك كل هذه الفوضى من حولك؟
– الأمور تسير بهدوء ورتابة، ليس هناك فوضى ولا أرق من قِبَلي. أحياناً أشعر بأنني أشرق في الأزمات.
> يعيش الجيل نقائض وعذابات يومية لأنه يسمع شيئاً ويعيش شيئاً آخر… من المسؤول؟
– الحكومة.
> ضمن 92 كاتباً نجد اسمك مدرجاً في كتاب أنماط التفكير… هل تنبأت لنفسك بشيء يشبه هذا؟
– تنبأت بأكبر من ذلك. وأنا اليوم لم أزل على مشارف الـ40، أطمع بأن أعيش مثلها وربما يتحقق ما أتمناه.
> الكتاب يدرس في”كميونتي كوليج”… ماذا يحملك الأمر من مسؤولية؟
– المقال استحق ذلك في نظر المؤلفة، وهو في النهاية مترجم من أصله العربي الذي كتبته، والفضل في ذلك يعود إلى الصديقة الغائبة فايزة أمبا وإلى زوجتي.
> هل ما زالت”لماذا”تجرك إلى ميادين وقلاع كثيرة؟
– ما زلت أتساءل، والإنسان المتسائل هو الإنسان الحي. لماذا هي التي قادت أعظم عقول البشرية إلى الاكتشاف والاختراع والإبداع.
لماذا يكرهها الكهان ورجال الدين المتشددون والطغاة، لهذا كتب بعض أسلافنا مؤلفات كثيرة في التحذير من الأسئلة والمتسائلين. كان مالك بن أنس يقول: من أكثر الخصومات – أي التساؤل- أكثر التنقل.
وهذا نقيض الحياة وسنن التاريخ، فالتغير والتحول والتجدد هو ناموس الكون. وقد امتدح القرآن أولي الألباب المتسائلين الذين يتفكرون آناء الليل والنهار. ولهذا قال أحد السلف: تفكر ليلة خير من عبادة سنة.
الليبرالي السعودي
> الليبرالي السعودي تنحصر منجزاته في التنظير… متى يخرج إلى التجربة الحقيقية؟
– التنظير تجربة حقيقية، وعيش الإنسان وفق قناعاته شيء جيد خليق بالاحترام. وأنت في النهاية لن تستطيع أن تطالب إنساناً بأن يجسد أفكاراً لا يؤمن بها ولا يبشّر بها، لمجرد أنه يدعو إلى إعطاء المرأة حريات أوسع وحقوقاً أكثر.
الأفكار التي يطرحها الليبرالي السعودي هي ذات شقين، الأول مرتبط بالجانب الاجتماعي ويمكنه تمثلها والعيش وفقها في بيته ومع زوجته وبناته، وأي إنسان يحترم نفسه لن يتبنى أفكاراً ويبشّر بها ويكون هو أول من يخالفها، أو يمارس سلوكاً يتناقض معها، وهؤلاء قد يكونون محافظين في الشق السياسي وهنا بإمكانك أن تتحدث عن تنوع ومواقف مختلفة وربما متباينة، ولكن بما أننا نتحدث عن تنظير وليس عن ممارسة.
الليبرالي لا يملك قرار التغيير وتحويل مجتمعه إلى مجتمع ديموقراطي، وهذا الفصل بين المجالات متفهم وليس نشازاً أو تناقضاً، علينا ألا نغفل عن أن الليبرالية لم تولد ناجزة مكتملة، بل مرّت بتطور وتحولات وتمددت مفاهيمها إلى مجالات أخرى.
في القرن الـ 18 كان معظم رواد التنوير محافظين سياسياً، كانوا يطالبون بإصلاحات نعم، ولكن اهتمامهم الأكبر كان ينصبُّ على الحريات الشخصية والدينية والفكرية، كانوا يعتمدون على تنوير العقول أولاً ومحاولة انتشال مجتمعاتهم من سيطرة رجال الدين ونفوذهم الروحي وأن يملك الإنسان قراره. أعتقد بأننا إذا نجحنا بأن نصل إلى مستوى الوعي في القرن الثامن عشر فهو كافٍ، لأن غالبية مجتمعاتنا معتقلة لمعتقدات ومفاهيم تعود إلى أكثر من ألف سنة.
> من يصنف نفسه بالمصلح الاجتماعي… هل يَلزمه أن يمر بكثير من التحولات الفكرية والمتطرفة لتتضح صورته مع نفسه؟
– يكفي أن يكون عاقلاً، وخبيراً بأحوال المجتمع وبصيراً بمعرفة الناس. الرسول محمد بن عبدالله، من أعظم المصلحين في تاريخ البشرية وحياته كانت اعتدالاً بشكل يفوق التصور، وكذلك الحال مع الفيلسوف الألماني”كانط”، وفلسفة كانط حول السلام والتحالف الدولي كان لها تأثير كبير في القرنين الأخيرين، والحال كذلك مع غاندي.
المصلح الاجتماعي يحتاج إلى شرط رئيسي وهو النزاهة والانسجام بين الأقوال والأفعال،”تولستوي”نمط مختلف من المصلحين الكبار فهو قد مر بتحولات دينية وسلوكية عنيفة وتشكلت رؤاه حول السلام ونبذ اللاعنف في سنواته الأخيرة، مع أنه كان قد مجّد الحرب في روايته الضخمة الحرب والسلام.
> البناء المعرفي للشباب… هل يكتمل في ظل القطيعة مع وسائل التثقيف كالمسرح والسينما؟
– السينما والمسرح لا يصنعان معرفة، لكن وجودهما شيء جيد للترفيه عن الناس. الشيء الذي يحزنني كثيراً هو عدم توافر عدد معقول من المكاتب العامة في أحياء المدن السعودية.
مدينة كبيرة كالرياض يسكنها نحو أربعة ملايين في أحياء متباعدة تصل ربما إلى 27 حياً تحتاج إلى 30 مكتبة عامة على الأقل، مكاتب تحوي كل العلوم والتخصصات. يقاس تقدم المجتمعات بنسبة القراء وعشق المجتمع للكتاب. إن ارتياد المكاتب العامة ليس مجرد حصول على كتاب أو تصفح صحيفة مجاناً، إنه يعكس مدى رقي المجتمع ورغبته في المعرفة، إنه تربية على سلوك رفيع: كيف تتعاطى مع الكتاب كيف تجلس كيف تبحث عما تريده حينما ترغب في معرفة أكثر؟.
منذ 26 عاماً والأشخاص الذين أعرف أنهم يقرؤون ويتصفحون الكتب نادرون. الآن تجد عائلة كبيرة من 70 أو 80 شخصاً بأجيالها الثلاثة لا تجد فيهم من يشتري عشرة كتب في العام لقراءتها، ولا من يقرأ كتاباً متوسط الحجم كل نصف سنة. المحزن أن هناك كتاب أعمدة ومقالات رأي في الصحف لا يعرفون إلا”غوغل”وأحاديث المجالس. هناك أمر مهم آخر وهو مهارة القراءة والقدرة على القراءة والحديث من دون أخطاء ولا”تعتعة”. استمع إلى من يظهرون على الإعلام من السعوديين، ولا سيما الخليجيين عموماً، ستجد أن القلة منهم من لا تشعر بالخجل وأنت تستمع إليه وهو يقرأ خطاباً أو يتحدث ارتجالاً.
> هل تشعر بأن كثيراً من العلماء ينقصه الفقه والحكمة في التعامل مع التحديث حوله؟
– ينقصهم الصمت، وبإمكانهم أن يعيشوا كما كان يحيى بن أكثم وصدر الدين بن الوكيل وابن خلكان. ليس مطلوباً منهم أن يكونوا حكماء في التعامل مع التحديث ولا الحداثة. ولكنهم لن يصمتوا لسببين: لأن المجتمعات المسلمة لم تزل تنصاع لهم وتلجأ إليهم وتسمح لهم بالتفكير نيابة عنها لهذا فإن لهم سطوة روحية تمنحهم التأثير.
ومعظم الحكام العرب يستفيدون منهم ويحتاجون إليهم، وثانياً لأنه كلما كان الواحد منهم أكثر قدرة على الهذر والتفيهق وادعاء معرفة كل شيء، كلما توافرت له فرص الظهور مفتياً أو مثرثراً في القنوات بساعات أطول وعقود بالملايين أوفر. صحيح أن الإعلام اليوم يكشفهم أكثر لأنهم تحولوا نجوماً يظهرون على أغلفة المجلات والصفحات الأولى للصحف، وأصبحت القصص عن بيعهم للفتاوى الدينية بالملايين وخلافاتهم المالية على كل لسان، وهم أحياناً يتعمدون إثارة ضجة لأن ذلك يخدم شهرتهم ويلفت الأنظار ويدفع القنوات التجارية إلى التقاتل عليهم.
الخلاصة أن إحداث تغيير عميق في عقول المساكين ضد لصوص الدين تحتاج إلى تعرية الأسس الفكرية التي تمنحهم هذه السطوة وليس فقط كشف تناقضاتهم واشترائهم بآيات الله ثمناً قليلاً.
>”الأمن الفكري”… هل يتطلب تحقيقه تكثيف المحاورات والمؤتمرات أم أن هناك أمراً لم ندركه بعد؟
– الحديث عن الأمن الفكري يكثرُ لتُّه وعجنُه. ولكنني حتى الآن لا أعرف ماذا يقصد به؟ لا يوجد شيء اسمه أمن فكري، هناك أمن حسي حقيقي يجب أن يتوافر ويشعر الناس بأنهم في بلد مستقر ويعيشون في سلام، وهناك حريات فكرية ودينية وثقافية، وهذه لا بد من تحقيقها، إذا كان هناك أفكار تكفيرية وتدعو إلى العنف والجهاد والقتل هذه لابد من القضاء عليها.
إذا كانت سدنة مايسمى بالأمن الفكري يساوون بين فولتير والزرقاوي أو بين عبدالعزيز المقرن وأدونيس، وبين ناصر الفهد ومحمود درويش، فهذه قصة أحزان أخرى.
هداية المجتمعات
> كيف يتأتى لنا أن نطرح”الإسلام”مشروعاً في الحركة الإصلاحية لأوضاع العالم المتردية؟
– العالم متخم بأرقى ما أبدعته العقول البشرية. العالم اليوم لديه اكتفاء بأرقى الأفكار التي تشكلت من عصارة تجارب التاريخ وقصة الإنسانية ومواجهتها مع نزواتها وحروبها، هذه الحكمة المستنيرة التي تتعولم كل يوم وتهدي المجتمعات المحتربة إلى الصراط السوي والرشد، هي نتاج كل الحضارات والثقافات والإسلام، والمسلمون جزء من هذه البوتقة.
> في كنف كلا الفريقين مارست حياة الضجيج… أليس بالإمكان أن تعيش قناعاتك من دون حروب مع الآخر؟
– وهذا ما أفعله منذ عرفت نفسي. أنا أعيش قناعاتي من دون حروب.
> جامعة الإمام… هل هي رائدة المدرسة الدينية عندنا؟
– هي من منابع التعصب والجهل ومفرِّخة للتفاهات.
> هل تقرأ تحولات جذرية في مجتمعنا قادمة؟
– يمكن، ولكن أخشى أنها للأسوأ.
> ما قراءتك لبرامج المصالحة مع الإرهابيين، وبرامج التوعية للمسجونين في مثل هذه القضايا؟
– ندخلك إرهابياً، ونضمن لك أن نحولك إلى متطرف ومتشدد.
> الانغماس في طلب الحور العين… هل يكتنفه الشهوة غالباً؟
– أظنه نوعاً من التظاهر والادعاء، فهم يغلفون أسباب انتحارهم أو قتلهم للآخرين بدوافعهم الشهوانية تجاه الحور العين، لا أظن إنساناً سوياً يقتل نفسه للحصول على امرأة ليست في هذه الدنيا. لا يمكن لرجل أن يهلك نفسه من أجل أخرى وهما لم يتراسلا، لم يتبادلا كلمات الحب، لم يتبادلا القبل، لا يفعل الرجل ذلك إلا إذا كان يعبد أنثاه حد الهوس. ولا أظن أن مسلماً موحداً سيقتل نفسه بسبب شوقه إلى الجماع وسيطرة الغلمة عليه، هذا مستبعد. لأنه شرك أكبر.
> هل هناك”ردة”عن الدين في عصرنا الحاضر؟
– هناك مفاهيم حقوق الإنسان التي تمنح الفرد حق التحول واعتناق ما يشاء. والعالم كل يوم يتكيف مع تحولات جديدة وربما جذرية، ولكن صدمتها على المجتمعات المتدينة تتضاءل كل يوم. على المستوى الأدنى. هناك أنماط من التدين تولد كل يوم وهي تُجري نوعاً من الانتقاء والاختيار للنموذج الذي ترغب في أن تعتنقه وتؤدي وظائف الدين وفقه، وهي في نظر البعض من المتدينين ردة مموهة، لكن الملاحظ أن التبجح بالتحول الديني العميق أي الردة الصريحة هو شيء نادر للغاية في البلاد الإسلامية، ما يجري هو نوع من الاكتفاء بالانتساب الاسمي الذي تدفع إليه اللباقة والاحتشام، ولكن مع خلو المضمون أو حشوه بالنقيض.
> لماذا أحكامنا قاسية على خيارات الآخر؟
– ربما هو شيء يعود إلى الثقافة والدين والسياسة.
> نالك التكفير، والسجن، ووصل الأمر إلى هدر دمك… هل كان الأمر يستحق كل ذلك؟
– لم يكن يستحق ذلك.
> تتأنى في طرحك السياسي أكثر من الديني… لماذا؟
– لكي لا أسجن، ولا أمنع من الكتابة ولا يقطع راتبي.
> هل تعد نفسك مثقفاً سياسياً؟
– أنا أفهم بالسياسة أكثر من معظم السياسيين.
> كيف نتخلّص من الوصاية على المجتمعات والتسلط على خيارات الأفراد؟ ومن يمارسها أكثر اليد الدينية أم السلطوية؟
– الحكومات تسلّط المتدينين على المجتمعات.
> شيوخ الصحوة أصبحوا شيوخ فضائيات وجماهيرهم فقدت البوصلة… ما الحل؟
– ليس هناك حل، دعهم في غيهم يعمهون.
> باب سد الذرائع… ماذا أغلق في وجه المرأة؟
– الحياة الكريمة.
> أخيرا… دعوة عشاء لأربعة أشخاص… من ستدعو من الجيل الحاضر أو الجيل المقبل؟
– سأدعو زوجتي، وفيروز، وماري روبنسون، وتشارلز ثيرون.
أفنيت 30 عاماً من حياتي في الخلافات على “التفاهات”
< يعترف منصور النقيدان أنه أتيحت له في سنوات الصبا أن يلعب مع البنات كثيراً، ويضيف:”عندما شارفت على الثانية عشرة كنت مع أقراني نشعر بسعادة غامرة في الأعياد حينما نظفر بقبلة على الخد من إحداهن في سلام العيد، لكنه كان شيئاً عفوياً وبريئاً، مع أصحابي كنا بعيداً عن الرقباء نقوم في أحاديثنا بتقاسم الفتيات الجميلات وربما تنازعنا على واحدة منهن”. ويستطرد:”كان هناك صبية بارعة الجمال، كنا نصاب بالهوس إذا رأيناها في المناسبات أو تحدثت إلينا أو ابتسمت، كانت أحياناً تلبس قميصاً وبنطلوناً وأحياناً تركب الدراجة، وكان هذا يمثل لنا شيئاً من السحر والتمرد والاختلاف عن بقية البنات، وفي الـ14 التقيت فتاة في عرس في بيت قريبة لنا، كانت الفتاة من أهل الحي. بدت لي ليلتها كالفراشة بفستانها الأبيض وقبعتها ذات اللون الوردي، كانت لعوباً فخلبت لبي، وكنت مفعماً بالسعادة أن أحداً من أصدقائي لم ينافسني عليها. كانت اكتشافي وقصتي الخاصة، أذكر أنني قبلت يدها وأهديت لها زهرة، والفتيات الأخريات يرمقنني ويضحكن، بعد هذا اللقاء أخذت أكثر من شهر وأنا مهووس بها، لم أكن أعرف من أي عائلة هي ولا أين يقع بيتها”.
ويتابع:”بعد زيارة أخرى لبيت قريبتنا رأيتها مرتين تلعب في الحي مع الصبية والبنات، ولكنها لم تكن تلقي لي بالاً، كان يحف بها شرذمة من الصبية لهذا صرفت النظر عنها، ولم تمض فترة حتى انتقلوا من الحي”. ويكمل النقيدان سرد حكايات الغرام بقوله:”في عمر الـ 19 علقت بي صبية صغيرة من الجيران، كان فارق السن كبيراً بيننا، ولكن انصياع والدها وإخوتها لرغباتها كانت تدفعهم لاستضافتي أحياناً على العشاء. كانت هي ترمقني من خلف الباب وأحياناً كانت تسألهم عن مكاني من المائدة وتجلس حيث جلست وتأكل من حيث أكلت. كنت أستلطفها مع أنها كانت شرسة وسليطة حينما ألتقيها عند الباب وأبادرها بالسؤال عن إخوانها”.
ويمضي في اعترافاته:”أول قبلة عرفتها من أنثى نلتها وأنا مكتمل الرجولة في الـ29. لم أعرف الأنثى بشكل فطري وصحي في الـ 30 عاماً الأولى من حياتي فقذ انحصرتْ حياتي في البحث عن التقوى وطلب العلم ومتاهة الخلافات على التفاهات. الحياة الاجتماعية والدينية لم تكن تسمح لنا إلا بالزواج فقط من دون معرفة مسبقة، كان ممنوعاً علينا حتى سماع صوت الأنثى وحديثها وغنائها”، متسائلاً:”لا أدري حقيقة هل أصف ما أشعر به إزاء ذلك بالندم أم بالغضب”. ويكمل:”عام 2003 عشت قصة حب حقيقي تُوِّج بزواجنا أنا ومنى، أشعر بأنني عوضت كل ذلك الحرمان”.
توقعت أن أُعدَم “حرابةً”
< ممتن منصور النقيدان جداً أنه كتبت لك حياة جديدة… وقد شعر بذلك مرتين، الأولى حينما قام الملك فهد بن عبدالعزيز – رحمه الله – بالعفو عنه عام 1993،”كنت قد بلغت الـ 23 وكنت متخوفاً من الإعدام حرابة”.
ويضيف:”سبق لي أن كتبت في أيار مايو 2003 حول هذا وشعوري بالمسؤولية تجاه ذلك الحدث الكبير في حياتي، اليوم أراني قمت بواجبي على أكمل وجه ورددت الدَّين الذي ألزمت به نفسي”.
ويتابع:”المرة الثانية حينما قمت بتسجيل ابني يوسف في المدرسة، وحينما رافقته مرة مع أمه ومعه حقيبته يجرها معه شعرت لحظتها بأنني ولدت مرة أخرى، كان إحساساً عميقاً وشفيفاً يصعب وصفه”. مستطرداً :”إن ما حدث معي في السنوات الـ 5 الماضية هو حياة حقيقية أخرى، راهنت عليها وتحملت تبعاتها وتجشمت الغربة للحفاظ عليها، قبل شهر واحد صدر كتاب روبرت ليسي الجديد داخل المملكة وأحتفظ بنسختين من هذا الكتاب الذي يسرد قصتي منذ الطفولة مرفقاً بصورتي مع منى وليلى ويوسف، وأتمنى من الله أن يحقق أمنيتي الكبرى، حينما يحوطني أبنائي وأحفادي وأنا في شيخوختي أحكي لهم بعضاً من صفحات هذه الحيوات التي عشتها”.
17/11/2009