اليوم يصادف الذكرى الثانية لغزوتي منهاتن وواشنطن. كنت شاهداً لحظة انهيار المبنى الثاني لبرجي مركز التجارة العالمي..وفي منزلي ببريدة التقطتها على الهواء قبل أن تتنبه لها المقدمة الحسناء بقناة الجزيرة. أعقب ذلك عشرون شهراً لأرى بعيني رأسي وأنا بسيارتي على طريق الأمير عبدالله وهج الانفجارين المدويين في سماء الرياض الثاني عشر من مايو الماضي. لم يفصل بينهما إلا لحظات، حسبتها ألعاباً نارية، وشعور خفي داخلي يقول: إن ثمة شيئاً رهيباً قد حدث. بعد تفجيرات أمريكا كان كل شيء في الخارج مستعداً للتغير. وربيع السعوديين من لحظتها بدأ في الانحسار. غير أننا احتجنا عشرين شهراً ليحدث ذلك الزلزال أثره في الداخل مع شيء من الصدمة..حينما ذهبت خمس وثلاثون نفساً ضحية ماحدث.
صديقي أبو زياد يذكرني قبل أن أكتب المقال أن أشير بشئ من الإشادة إلى أنه أحد القلائل الذين استنكروا تفجيرات أمريكا ساعة سماعه بها. كان موضعاً للتندر والسخرية بين زملائه وأصدقائه.أبو زياد وأربعة آخرون كانوا استثناء من بين العشرات الذين قابلتهم في الأيام التالية. فالجميع كان سعيداً مستبشراً والفرحة ترقص بين عينيه لمصاب أمريكا الجريحة. (أمريكا الحبيبة..أصيبت..أحسن الله عزاءك) هكذا كانت رسالته عبر الجوال.
ليومين أو ثلاثة كان الجميع يشعرون بنشوة وفرحة عارمة، وسجلت شركات الاتصال في يوم الثلاثاء المشئوم عشرات الملايين من رسائل الجوال. البعض أقام ولائم ومآدب شكراً لله. الشقق المفروشة يوم الزلزال النيويوركي كانت ممتلئة في إحدى أكثر المدن محافظة، فمن لم يكن عنده دش فزع إليها، البعض لم يعد من استراحته إلا مع الفجر. بعدها الكثيرون استأذنوا جيرانهم بمد سلك إليهم مفضلين الستر.وآخرون قرروا يومها أن يقتنوا أطباقاً..فالحدث الكبير أجبرهم على خطوة طالما انتظروا فرصتها المناسبة.
لم يمض أسبوع حتى كان الوجوم يعلو الكثير من الوجوه.الخوف بدأ يدب في العروق، ربما تكون العاقبة علينا وبالاً.هكذا فكر البعض. حتى الصحف أصبحت أكثر حذراً من إظهار مشاعر الشماتة، فأمريكا غاضبة وتبحث عن فريسة. مساء الثلاثاء المشؤوم بلغني نعي أحد أشياخي.عاش أكثر من تسعين عاماً زاهداً.ابن لادن امتطى الحداثة ليطعن أمريكا في خاصرتها بحربته..لقد غزاها..وشيخي أسلم روحه في اليوم نفسه ولم يركب سيارة ولم يرتحل طائرة. كلاهما كانا يعبران عن هذا الدين بطريقتهما الخاصة. لقد مضى وهو قد عاهد ربه ألا تمسه يد غير مسلم فمات في بيته…كان شيخي يقول دائماً: إذا عرفك الله فماذا سيغني عنك الآخرون…لقد دفنوه حسب وصيته في مقبرة أجداده المهجورة .ابن لادن يومها كان الاسم الأشهر في المعمورة.
المدارس والثانويات، الجامعات، والمساجد، كانت تعج بالتأييد والتبريك، ومع ضرب أفغانستان كان التجنيد للقاعدة يجري في كل ثقب، وحدود اليمن لو حدثت أخبارها لكانت أسماراً. بعض ضيوف برامج التليفزيون السعودي لم يكونوا يخفون تأييدهم المبطن للقاعدة. الإدانات الباردة تثير الاشمئزاز. كانت باهتة لا حياة فيها ولا رواء. بل كانت مصطنعة. بعد تفجيرات الرياض اتصل بي صديق كان قد أجرى لقاءات صحفية كثيرة مع شرائح متعددة.قال :لقد أذهلتني كمية النفاق التي نتمتع بها.كلهم يؤيدون تفجيرات أمريكا، ويرون المنفذين لتفجيرات الرياض الأخيرة مجتهدين ولكنهم مخطئون . وعند أخذ مشاركاتهم للنشر أدانوا كلهم واستنكروا!
كثير من المعجبين بالعرض النيويوركي، كانوا يدخلون مع الآخرين في جدل واسع لإنكار أن تكون القاعدة وابن لادن وراءه. ومع هذا يرشح في حديثهم اعتراف ضمني بأن أسود الإسلام يعرفون كيف يصلون إلى عمق الأراضي الأمريكية حينما يريدون.
قبل أسابيع ذكر جيمس زغبي في مقال نشرته الشرق الأوسط أن دراسة قام بها مركز دراسات (لبناني) أثبت أن 99% من المجتمع السعودي يرى أن ماحدث في سبتمبر جريمة. إن كان الحال على ذلك فليس لدينا مشكلة! ولم حديث المسئولين السعوديين عن التحذير من التعاطف مع ثقافة الموت؟ وما حقيقة مايقال ونشر في الصحف من أن مئات من الأئمة والخطباء قد فصلوا؟ ولم الحديث عن دورات تأهيلية لهم؟ ولم السعي لإعادة النظر في حلق تحفيظ القرآن؟
أول خطوة إلى العلاج هي الإقرار بأن لديك مشكلة، مالم تعترف بالمشكلة فلن تستطيع القيام بأي خطوات تصحيحية. تطلب الأمر أكثر من سنة حتى جاء الإقرار بأن 15سعودياً كانوا مشاركين فيما حدث. كما اقتضى أن يقع تفجيران مؤلمان في الداخل حتى يكون هناك إذعان بأن لدينا مشكلة، في ثقافتنا وفي فهمنا للدين. إنه لثمن باهظ جداً. وما هو أكثر مفارقة وأكثر غرائبية أن يكون هناك نفي تام لأشياء جاء الحديث عنها علناً عبر وسائل الإعلام.
بعض الذين أفتوا بمشروعية ماحدث في أمريكا من تفجيرات وشجعوا وألبوا ودعموا القاعدة وابن لادن لمواصلة الجهاد ضد الكفار لم يتعرض أحد منهم لمسائلة لأكثر من سنة كاملة، حتى ثبت تورطهم بعلاقات تربطهم بخلايا وتنظيمات داخلية. لقد كان المسئولون يعتقدون أن بالإمكان تفادي ضررهم في الداخل . ربما كان الخوف من أن يكون أي تشديد أو ملاحقات أمنية ضد أولئك سبباً في أن يوجهوا عملياتهم للداخل. وكان اليقين بأن بالإمكان التحكم بذلك، وأن بالإمكان التعامل مع العمليات الإرهابية والمسئولين عنها والمتورطين فيها بقسوة مفصولاً عن التعامل مع ثقافة الغلو والتطرف الحاضنة لتلك التوجهات والتي يتم تلقينها في كل مركز صيفي، وفي كل مسجد وجامع، وفي كل حلقة تحفيظ، وفي المخيمات الدعوية، والبرامج الدينية في التليفزيون وإذاعة القرآن الكريم وحتى في فتاوى تنشر في الصحف، والكتب والمنشورات التي تباع في المكاتب أو توزع مجاناً. أخيراً أدرك أصحاب القرار والمعنيون أن ثقافة التطرف، ثقافة الدم، أن الفهم المتشدد للدين.أن الغلو والخارجية التي ضربت أطنابها وعششت في أدمغة جيل بأكمله مسئولة مسئولية مباشرة عن كل ماحدث.
علينا أن نسمي الأشياء بأسمائها، أما البيانات العائمة المجمجمة والتي كثيراً ما تأتي متأخرة تنتظر إذناً أو توجيهاً من جهة ما، والتصريحات المطاطية المرنة القابلة لأن تفسر على عدة وجوه ومعاني فلن تغني شيئاً.
إذا كان الحديث عن الإرهاب، أوالمسئولين عن تفجيرات هنا أو هناك، فإن بلدنا كان أحد أكثر البلدان أماناً على هذه البسيطة، وما يدعى من أن ثمة تساهلاً وتهاوناً مع الإرهاب أو المسئولين عنه، ليس إلا كذباً وتزييفاً. فلم تكن السعودية يوماً داعمة أو متعاونة أو متغاضية أو متسترة.لكن كان هناك تساهل واضح ودعم لامحدود لمن ينشرون الفهم المتطرف للدين…وبين الإرهاب والتطرف شعرة..خيط رفيع..غاب عن أكثر العقول حصافة إدراكه، فكان هناك دائما اعتقاد راسخ دائماً أن بالإمكان أن يتم التحكم بذلك ما لم يتجاوز الأمر الكلام والإرهاب الفكري، ولكن الواقع والأحداث، والتاريخ قبل ذلك أثبتتء أن الغلو هو المدماك والعتبة الأولى للإرهاب.
ما نحن بأمس الحاجة اليوم إليه، إدراك أن الإرهاب الفكري الذي مورس ويمارس على الآخر المسلم الشيعي أو الصوفي، أو الليبرالي أو العلماني أو أو، هو الوجه الآخر للتنظيمات المسلحة، إن فتاوى كانت ومازالت. يتم تداولها منذ سنوات لأحد كبار العلماء في السعودية وممن يتمتعون بجماهيرية كاسحة، تسيء إلى أصحاب المذهب الشيعي تحتاج اليوم موقفاً حاسماً. أمثال هؤلاء يجب أن يوقفوا عند حدهم وأن تتم محاكمتهم وإدانتهم لإثارة النعرات الطائفية، وأي تساهل مع هؤلاء سيكون له آثاره السيئة على الجميع. من الحكمة الآن القيام بإجراءات كثيرة وتنفيس وبحبوحة من حرية الممارسة والتعبير، تفادياً للمقبل من الأيام. ورتقاً لخرق بدأ يتسع، فما يجري في العراق اليوم مؤذن بشر مستطير قد يطال شرره كل من حوله.
لقد أثبت أبناء الطائفة الشيعية أنهم أكثر حرصاً على وحدة هذا البلد واستقراره ،مع كل الفرص التي كان من الممكن أن يجد البعض فيها فرصة لما يدعيه المتطرفون الذين أثبتت الوقائع أنهم هم الخطر الحقيقي مهما ادعوا أنهم الأكثر أصالة وسلامة معتقد وألصق بالتعاليم .
من المؤسف أننا كنا صانعين ومساهمين في خلق ذلك الوحش الكريه الذي خرج عن السيطرة. ولكننا حينما نساعد أنفسنا بصدق فستمتد إلينا الأيادي لتشد من أزرنا. قد تكون المهمة كبيرة وشاقة.نعم. فالأمر من الصعوبة يتطلب معجزة هي أشبه بالمستحيل، ولكننا نحتاج إلى الخطوة الأولى، أن نضع أقدامنا على الطريق الصحيح. فكل ماحصل نحن مسئولون بنسبة كبيرة عنه، مهما قمنا بتبرئة ذواتنا.إننا نتحمل القسط الأكبر، وعلينا نحن فقط دون غيرنا مسئولية القيام بتلك المراجعات، أن نقدم للعالم ديناً أكثر تسامحاً وأكثر تعايشاً مع الآخرين، ديناً ينأى بحامليه عن أن يكونوا ألأم الناس، وأكثرهم خسة ودناءة، وأكثرهم نكراناً للمعروف، وهم يتبجحون أمام العالم أنهم خير أمة أخرجت للناس، ديناً يجنب حامليه عن أن يكونوا من الضعة بمستوى يدفعهم إلى الشماتة بجراح بلد ومجتمع آواهم وعلمهم وأنفق عليهم ورفع من إنسانيتهم، وأشعرهم حقاً كيف يعيشون بشريتهم، كيف يتواءمون مع العالم كيف يكونون طيبين تماماً ومنتجين كمواطني تلك المجتمعات التي احتضنتهم، وأطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف.