ليست المشكلة في الأفكار التي نطرحها للخروج من أزماتنا التي نواجهها، ويضيق خناقها علينا يوماً بعد يوم، فالحلول أو الرؤى التي يشارك الجميع بها تعكس مستوى القلق الذي يساورنا. نادراً ما تواجه المجتمعات حقيقةَ أن ثقافتها وعقيدتها التي تبشر بها حيثما وجدت لها موطئ قدم، وأسلمت أبناءها براحة ضمير قرابين على مذبحها وترعرعت أجيال متعاقبة على تعاليمها، قد أصبحت خطراً يهدد الاستقرار العالمي، ويزلزل وجودها ونذير تمزق داخلي. وحينما توجه أصابع الاتهام إلى الثقافة، فالأمر حينئذٍ سيكون اتهاماً موجهاً إلى الذات، فهما متماهيان معجون أحدهما بالآخر. ثقافتك هي التي تحدد هويتك وتمنحك مذاقاً ونكهة مختلفة. ووجودك هو الذي يمنح ثقافتك الاستمرارية والتجدد والامتداد عبر الزمن بواسطة الأجيال المتعاقبة، وإمكاناتك ومواردك تحدد رقعة انتشارك وقدرتك على التبشير بها خارج حدودك. هي بالتأكيد لحظات استثنائية شاء الله أن نعيش داخل أتونها.
صحيح أن المصالح السياسية والتحالفات قد توظف بعض الأفكار أو التوجهات الدينية لأغراضها، لكنك في الأخير حينما تساهم بالفكرة وتوفر جنودها، ستبقى في الأخير وحدك. فالمشكلة حينئذٍ تخصك أنت ولا تخص الآخرين. إذا تجاهلت استئثار طفلك المدلل بالحلوى من دون أشقائه، وتجاوزت عن اعتداءاته المتكررة عليهم ونهبه للعبهم، كل هذا وسكان الحي يعرفون تفاصيل ما يجري في بيتك. فلن يصغي إليك أحد منهم إذا طالت يده أبناء الجيران، مهما أكدت أنه مسالم وخجول يستحي من ظله إذا خرج من البيت. لن يقنعهم أن ابنك سيء في البيت فقط. وسيشعر الجميع بالقرف حينما تقدم لهم دراسة تثبت أن طفلك هو الأكثر ملائكية بين أطفال الحي.
الرؤى الراديكالية الجذرية التي تطرح في الصحف قد تكون جاءت متأخرة وفي مناخ من الخوف والضغوط الهائلة وتوجس من المستقبل وما يخبؤه، لكنها تعكس ما يشعربه الجميع من محاولة البحث عن مخرج. لم تعد مجدية تلك الشعارات المملة التي تردد حتى الساعة هذه. قد تكون أنسب الحلول جاهزة على الرف، والحصافة تتجلى حينما تدرك القيادة أنها الآن -خلاف ما يتوهمه الكثيرون- أقوى منها داخلياً أكثر من أي وقت مضى، وأن أصواتاً طالما وقفت حائلاً وسداً منيعاً دون خطوات وإصلاحات حقيقية، هي الآن أضعف ما تكون. إن قرار مجلس الوزراء الأخيربتدريس مادة الإنجليزي في السنوات الابتدائية للبنين والبنات يوضح كيف أن الأرضية الآن مهيئة لقرارت أكبر وأهم.
أدرك الجميع أن تلك القوى بضخها لسنوات ثقافة الدم والكراهية وتوفيرها المحاضن لنمو الأفكار المتشددة والمتطرفة هي مسؤولة عن جزء كبير مما حدث، كما أن الابتزاز الذي ما رسته تلك الفئات لمدة طويلة لم يعد مجدياً.
وبوعي الجميع أن المسلمين بدولهم لا يحكمهم إلا واحد منهم، وأن مسألة كون الدول مسلمة أو غير مسلمة تحكم بالإسلام أم لا. هي مسألة يحددها الدستور. ويشهد لها الواقع المشبع بالإسلام وقيمه. فالمشروعية تستمدها الأنظمة والحكومات من إنجازاتها الحقيقية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. وبمقدار ما توفره من الرفاه لمواطنيها، والمساواة في الحقوق والواجبات دون أي تمييز طائفي أو ديني، تحظى بمشروعيتها.
وبعيداً عن كيل المديح والإطراء لكل التدابير والإجراءات التي اتخذتها الحكومة في المجال الأمني وتتبع المسؤولين عن الأحداث الإرهابية الأخيرة، والداعمين لهم. فإن الحكمة والضرورة تقول لنا:( إن ثمة إصلاحات حقيقة يجب أن نلمسها على أرض الواقع، وأن نوفر أي حديث عن النية في ذلك، أو العزم الأكيد أو أن ثمة إرادة حقيقية في الإصلاح). نريد شيئاً ملموساً. كما أننا لا نقول الحقيقة كاملة حينما ندعي أن المجتمع هو الذي يحول دون ذلك. إلا إن كان الإصلاح هو قيادة المرأة للسيارة ومنحها بطاقة شخصية!؟
كثيراً ما يردد المسئولون في خطاباتهم الرسمية أو في المناسبات شعورهم بالتقصير تجاه ما أنيط بهم من مهام يرونها، وتأكيدهم على أن ما يتم اتخاذه من قرارات يصب في خدمة المواطن، مع التركيز دائماً على أن ما يقومون به ليس إلا واجباً. وكان الملك فهد الاثنين الماضي قد أكد على أن الدولة لن تدخر جهدها في تحقيق الراحة والطمأنينة للمواطن.
غير أنه لابد من التنبيه إلى أن ما يحصل من تباطؤ أو تردد في اتخاذ بعض القرارات المهمة ذات البعد الاجتماعي أو ذات الحساسية الدينية، يعود في الأغلب إلى أن تلك الدفعة تتطلب انسجاماً ما بين القيادة والمجتمع بشتى شرائحه. لهذا فنحن لا نقول الحقيقة كاملة حينما نرد الأسباب أو التقصير إلى طرف واحد. هناك قرارات مهمة لا يمكن أن تحظى بالقبول والتطبيق إلا بدعم واسع من مراكز القوى الاجتماعية. فما من أحد يشكك بأن الخطوات الأخيرة المهمة التي اتخذت مؤخراً ضد الإرهابيين، ما كان لها أن تحظى بذلك النجاح لولا تهيئة الرأي العام لذلك. ولكن هذا ليس كافياً. فطوال أكثر من عقدين ترعرع جيل على ثقافة كان يشعر الجميع أن بالإمكان التحكم بنتائجها السلبية، والاستفادة من غنمها وتجنب غرمها .
الحديث عن الإصلاح في السعودية، حديث كثر اللت فيه والعجن، وقد تبرع الكثيرون من الكتاب والمثقفين بهذر لا محصلة من ورائه، وكانت بعض المبادرات من أشخاص لا يمثلون إلا أنفسهم. وبدا تحدثهم بالنيابة – من باب حسن الظن – عن أصحاب القرار مثيراً للسخرية والتندر.
الحساسية الشديدة التي يشعر بها بعضهم تجاه (الإصلاح) مفضلين أن يكون الحديث عن (تطوير) ليس لها ما يبررها. فأن تقوم بخطوات حقيقية نحو الأفضل يعني أنك تقوم بالأصلح، والإصلاح لا يعني أنك كنت فاسداً قبل ذلك، بل يعني أنك الآن أكثر صلاحاً،. هكذا هي المسألة ببساطة. وفي كل الأحوال فالألفاظ لا ينبغي أن تحرفنا عن لب الموضوع وهو أن يرى الناس أشياء نحو الأفضل على أرض الواقع. فلطالما كان بعض من يتحسسون من هذا التعبير هم أكثر الداعمين للقرارات التي في صالح المواطن، مع اتصافهم بنزاهة مثيرة للاهتمام.
كما أن الامتعاض من الحديث عن الضغوط أمر لا مبرر له، فردود الفعل الداخلية والمحلية والتغيرات والتحولات الإقليمية والدولية، كلها عوامل تشكل في الأخير ضغوطاً تدعو الحكومات حتى العظمى منها إلى إعادة النظر واتخاذ ما يلزم إزاء قضايا وملفات شائكة إما عالقة أو مستجدة. فحتى الشرائع تتنزل أحكامها وفقاً للمتغيرات. في بداية الإسلام كانت المعاهدات التي عقدت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الطوائف التي كانت تتقاسم النفوذ في يثرب انعكاساً لتعدد مراكز القوى في المجتمع المدني، وفي صلح الحديبية كان عمر بن الخطاب يرى المعاهدة التي وقعها المسلمون في صلح الحديبية تنازلاً مهيناً للمشركين. ولكن الرسول رأى أن الخير في ذلك وكانت العاقبة كما أراه ربه. وحين يأتي الحديث عن السيادة فثمة خيط رفيع ما بين الحصافة والعنجهية التي لن تثمر في النهاية إلا الانصياع والانحناء بشكل مذل. في حصار الأحزاب عرض الرسول على الغزاة ثلث ثمار المدينة لكي يكفوا عن المسلمين. وفي غزوة مؤتة عدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم تراجع خالد بن الوليد – بعد أن حصد الروم المسلمين وقتلوا ثلاثة من قادتهم – انتصاراً.
إن في الرجوع إلى تأريخ الدولة السعودية والثالثة منها على وجه الخصوص وقراءة وثائق المعاهدات والاتفاقيات التي وقعها الملك عبدالعزيز ما يكفي في الإجابة. أنا لست سياسياً. ولكن المنطق والواقع يقول ذلك. نحن جزء من هذا العالم، نتعامل معه ونستجيب لمؤثراته. لسنا نعيش وحدنا في كوكب آخر.
كما أن اللغط الذي دار عن الحوار الوطني، والمقالات التي كتبت حوله يغني عنه قرار جريء برفع سقف الحرية في وسائل الإعلام. الوقت متأخر جداً للحديث عن أهمية الحوار الوطني (الديني/الطائفي)، وإقناع الجميع بجدواه. ليس من من شيء كفيل بذلك مثل أشياء ملموسة على أرض الواقع. وتبقى العبقرية في اختيار التوقيت المناسب.
عبدالعزيزآل سعود لم يكن بحاجة إلى الحديث والوعود والتنظير.هذا تولاه آخرون، وكتبوا كثيراً عنه وعن عبقريته. لكننا نعلم الآن أنه فوق كل ما كتب عنه، وأننا اللحظة هذه نشعر بحنين جارف إلى ذكراه والحديث عن منجزاته: أن نستلهم تجربته، تماماً كما غدا الآباء المؤسسون في أمريكا مصادر إلهام للأمة الأمريكية. ولكن عبدالعزيز مضى بعد أن أدى الأمانة. ونحن الآن نعيش لحظتنا.
نحن الآن أحوج ما نكون إلى الالتحام. هذا صحيح. ولكننا أحوج ما نكون أيضاً إلى الصدق والوضوح ومعالجة أخطائنا ومناقشة مشكلاتنا في الهواء الطلق. فالمعاريض والوثائق ليست حلاً ولا منقذاً. كما أن الصراخ والتباهي وممارسة البهلوانيات في الفضائيات باغتباط أبله ليس حلاً. الأمر يتطلب دعماً صريحاً وشجاعاً لكل خطوة نحو الأفضل تتخذها الحكومة، مهما كانت بطيئة ومتأخرة. والبعد كل البعد عن أن تحاكم الإيجابيات إلى السلبيات. فـ (لكن) عند الإطراء، أو عند العزاء لا مكان لها. ما نمر به الآن لحظة حاسمة لها ما بعدها. إنه الوقت المناسب لكثير من القرارات المهمة التي طال انتظارها.