في تصوري ان ابن تيمية لو تأخر زمنه لربما انه كان بالإمكان ان يكون أحد القلائل الذين بإمكانهم أن يقدموا تفسيراً جديداً للإسلام، فهو قد أفلح على الصعيد الفقهي ان يقدم فقها ميسراً متسامحاً واجتهادات جريئة
في سن السادسة عشرة عصفت بي شكوك وتساؤلات وحيرة استمرت معي شهوراً. كانت ذا طابع وجودي. اذكر جيداً لحظة ولادتها. كنت أصلي العشاء في المسجد. داهمتني تلك الأفكار والوساوس، عدت بعدها إلى البيت ولزمت سريري ثم توضأت وأويت إلى فراشي. فارق عيني النوم، نهضت وتوضأت وصليت ركعتين، ودعوت الله أن يعيذني من وساوس الشيطان. بكيت وتضرعت. وشقيقي قريب مني يغط في نوم عميق. وضعت رأسي على الوسادة ولم تفارقني تلك الهواجس. في تلك الفترة قرأت كل ما وقع بيدي من كتب لها صلة بمعاناتي. كنت أقاسي عذاباً لا يطاق. اذكر مرة اني عاهدت الله أن اتخلى عن كل شيء لأجله ان أراحني من تلك الشكوك التي سممت عيشي، ولأن الحديث عن مثل هذا النوع من العذابات الروحية داخل في نطاق المحرم، فقد لزمت الصمت ودفنته بين جوانحي… هدأت نفسي بعد حين..
قبل عشرين عاما كان شيخ بين طلابه في حلقته الصباحية. التفت إلى طالب كان يقرأ في صحيح البخاري…. وعيناه غارقتان بالدموع، وجعل يتمتم بكلمات لا تكاد تسمع: (تعوذوا بالله من أمراض القلوب)، ثم انقطع عن دروسه، ولاحظ الطلاب بعدها ان شيخهم كان يتأخر كثيرا عن حضور الصلاة في المسجد، بعد أيام لزم الشيخ بيته، وطوال تلك المدة كان قد ترك الصلاة كلية.
أي مجتمع محافظ دينياً مهما كانت شدة تمسكه بالدين يمكن أن يستوعب وجود اشخاص لا يلتزمون بتعاليم الدين ومنها الصلاة، ويجري التعامل معهم على انهم عصاة مقصرون، ولكنه لن يقبل أن يكون ذلك صادرا من رجل دين ينتظر منه أن يكون قدوة لغيره في التزام وأداء الشعائر والواجبات، لهذا يتم تفسير مثل تلك الوقائع – على ندرتها – بأن مصدرها أشياء غير خاضعة لقدرة الإنسان وتتأبى على إرادته: تسلط الشياطين، والأرواح الخبيثة مثلا. فغالب من يتعرضون لتحولات صارخة، إنما جاء تحولهم نتيجة تصادم داخلي وتوتر دائم بين أمرين لا يمكن فهم احدهما فهما تاما بالاستناد إلى الآخر. إلا ان الحديث عن مثل هذه الأحوال جرى اعتباره منذ فترة مبكرة في تاريخ الإسلام من المحرمات. وقد جاءت أحاديث مرفوعة إلى الرسول تشير إلى ان هذه العوارض والشكوك التي تطرأ على المسلم هي علامة صدق الإيمان، وان الواجب على المسلم أن يكتفي بالتعوذ من الشيطان، ويطمئن لصحة إيمانه دون أن يعلن الحديث عنها، أو يكاشف أحدا بتفاصيلها، لكون التحدث عن تلك الشكوك والنقاش حولها ضرباً من إثارة الشبهات، واشاعتها بين المؤمنين تنعكس سلبا عليهم، لهذا كان عمر بن الخطاب ينظر إلى اسئلة صبيغ بن عسل حول بعض آيات القرآن إثارة للشبهات والشكوك أكثر من كونها اسئلة مسترشد أو جاهل، بخلاف اسئلة مجاهد بن جبر المفسر لابن عباس، حيث سئل مجاهد عن سبب علمه الواسع بالقرآن فقال: بقلب عقول ولسان سؤول. لهذا كان جزاء صبيغ اسواطا انهالت عليه حتى أقر لعمر أن ما يجده من شكوك قد ذهب.
يذكر الصفدي انه كان يكثر زيارة الفقيه الحنبلي ابن تيمية كلما اشكلت عليه مسألة في الإلهيات، فكان كلما اجتمع به جعل الشيخ يدق باصبعه على صدره وهو يقول: أنا أعلم ان هذا القلب يغلي غليان القدر أعلاه أسفله واسفله أعلاه، ويقول (بق بق). الزمني تستفد.
ابن قيم الجوزية هو الآخر يذكر في مدارج السالكين عند حديثه عن منزلة السكينة ان شيخه ابن تيمية كان إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة ويقول: (سمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك، في حال ضعف القوة، قال: فلما اشتد عليّ الأمر قلت لأقاربي ومن حولي: اقرأوا آيات السكينة، قال: ثم اقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قلبة. وقد جربت أنا أيضاً – الكلام لابن القيم – قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه، فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه وطمأنينته).
إن كون “الأزمات الروحية” المتعلقة بالوجود والذات الإلهية، في ثقافتنا الدينية ضمن منطقة “التابو” أو المحرمات، باعتبارها تنم عن زيغ باطن، وشك، وعدم وثوق بالمسلمات، والثوابت الدينية، كان من أكبر الدوافع لكثير من العباد والعارفين للتكنية عنها، وعدم التصريح بها، والإشارة إليها لماماً حينما يخوض الواحد منهم تجربته الخاصة. لهذا قل في تراثنا من تحدث عن أزمته صراحة بمثل ذلك الوضوح وتلك الشفافية التي تحدث بها أبو حامد الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال، بل يتم الاكتفاء دائما بتوجيه الارشادات أو الإشارة إلى ما يعرض للعارف أو السالك في أول طريقه، كما يذكر عن ابن تيمية انه كان يقول: ان النفس كالناطوس (الكنيف)، كلما حفرت استخرجت قاذوراتها ولكن اطمرها وتجاوز، وقد أشار ابن القيم في قصيدته النونية لأثر الحراني (ابن تيمية) عليه، في نقله من الضلالة إلى الهداية، مع ان ابن القيم كان متصوفاً عابداً فقيهاً قبل أن يعرف ابن تيمية.
أزعم ان ابن تيمية من الشخصيات التي يصعب اكتشافها دفعة واحدة، ولكن بإمكاننا تلمس ذلك عبر مفاتيح لا تتيسر عن طريق الشخص نفسه موضوع الدراسة، لأنه ربما لا يريد ان يسلم الآخرين مفاتيحه، ولكننا نعلم (والعبارة مستعارة من عبدالرحمن منيف): “انه في حالات كثيرة تكون الكتابات الموازية ممن لهم صلة بالشخص نفسه هي الوسيلة الوحيدة للنفوذ لاقتحام هذا العالم ومعرفة أسراره وتعقيداته وخلفياته”.
كان ابن تيمية كثيرا ما يخرج إلى الصحراء وحيداً مردداً بيتين يعكسان ذلك الخضم الهائل من الصراع المتلاطم داخله:
تموت النفوس بأوصابها
ولم تدر عوادها مابها
وما أنصفت مهجة إذ شكت
أذاها إلى غير أحبابها
كما يحكي عنه تلاميذه انه كان أذا أشكل عليه فهم آية قرأ كل ما وقع بيده من كتب التفسير، فإن فتح له شيء وإلا لجأ إلى مسجد خرب أو عتيق وتمرغ فيه كما تتمرغ الدابة ودعا قائلا: يا معلم ابراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.
هذه القصة لا تعكس شغفاً معتاداً بالعلم ومعرفة القول الصحيح في تفسير آية ما بقدر ما تعكس حالة من الحيرة والقلق إزاء مسائل كبرى ذات طابع وجودي، تجعل إيمان الإنسان على المحك، فهذا الالحاح والتخفي والتمرغ في مسجد عتيق وتكرار الدعاء هي حال طالب للهداية والطمأنينة وبرد اليقين أكثر منها حال طالب للعلم والمعرفة اشكلت عليه آية، أو استغلق عليه فهمها.
فهل كان ابن تيمية فيما يحكيه ابن القيم عن تسلط الأرواح الشيطانية يشير إلى عاصفة من الشكوك كانت تلم به بين الحين والآخر حتى تنعكس على حالته النفسية والصحية؟ فنحن نعلم ان السنة النبوية جاءت بأدعية ورقى وتعاويذ لمن أصابه مرض جسدي وليس في شيء منها أي ذكر لآيات السكينة في القرآن، مما يعني ان ابن تيمية وهو الفقيه الحافظ للسنة كان يجتهد باستخدام آيات من القرآن تساعده على تخفيف حالته المرضية (الخاصة).
والأزمة الروحية التي تعتري الإنسان، تكون عاصفة شديدة مزلزلة، تبدو أعراضها على الإنسان مشابهة إلى حد كبير لما يسميه العامة بضيق الصدر، أو النفس، أو العين. أو السحر إذا بالغوا، وهي تلازم الإنسان مدة حتى يصل إلى حل توفيقي بتجربة ذاتية بحتة قائمة على التأمل والفكرة، مصحوبة بشغف يصل حد الهوس في البحث والقراءة والاطلاع حتى يطمئن قلبه، أو يتخلى كلياً عن ذلك الطريق ليصل إلى حالة من التبلد، واللامبالة. ولكن بما ان الافصاح عن حقيقة تلك العوارض ليس ترفاً، فكان يتم التحايل بالتعبير عنها بأمور أخرى تحظى بتفهم وقبول اجتماعي، ومستساغة في اللغة الدينية، لهذا نسمع دائماً عن فلان الذي كان يوماً عابداً صالحاً حافظاً للقرآن، وفجأة انقلب رأساً على عقب، وترك كل ذلك، فالواعظ يقول: أصابه الفتور، وأدركته ذنوب الخلوات، وآخرون يتأسفون لما أصابه من عين (ما صلت على النبي) أو نفس خبيثة. والسر في بطن صاحبه لا يبوح به لأحد.
تسلط الأرواح الشيطانية الذي ذكره ابن القيم عن شيخه ليس له إلا تفسيران اما ان يكون المقصود بها الوسوسة، وهو الذي ذكره الرسول (ص) في صحيح مسلم حينما شكى إليه ان الواحد يجد في نفسه ما يتمنى أن يسقط من السماء ولا ينطلق به، وهذا النوع من الوساوس ندر من يسلم منه، ومثل هذا العارض لا يمكن ان يصل بالإنسان إلى الحال التي كان ابن تيمية يعانيها.
الأمر الثاني: أن يكون تسلط الأرواح الشيطانية، هو تلبس الإنسي بالجني، وهذا بعيد تماماً عما كان يواجه الشيخ، وقد ذكر بعض خصوم ابن تيمية انه كان مصاباً بالصرع، وقطعاً ان ابن تيمية لم يكن كذلك، بل أكاد أجزم ان تسرب خبر مرضه (الروحي الغامض) إلى خصومة شكل فرصة سانحة لاتهامه بالصرع. مع العلم ان عدداً من العباقرة والمبدعين كانوا يعانون منه.
هل كان ابن تيمية شخصية قلقة؟ رأيي هو بالإيجاب.
فتلك النفحة الروحية هي التي أبدعت قوله المثير بفناء نار الكافرين ودخولهم الجنة مع المؤمنين – توسع تلميذه ابن القيم بشرحها في عدد من كتبه مثل (حادي الأرواح) – والقول بتسلسل الحوادث واجتهادات فلسفية، وكلامية أخرى، نثرها في كتبه، وفتاواه، أو سربها عبر تلميذه البار ابن قيم الجوزية.
ومع ما كان لابن تيمية من اجتهادات مثيرة إلا انه كان في المحصلة يخضع لنسق ديني سلفي سني، وينتمي لمدرسة حنبلية، كانت تحتاج منه على الدوام إلى نصرة المذهب، وأقوال إمامه، وتأييد مذهب أهل الحديث، والدخول في صراعات شرسة مع الأشاعرة، والصوفية، والذب عن رموز المذهب الحنبلي وتأويل كلام ذي حساسية دينية لمثل أبي اسماعيل الأنصاري الهروي أحد متصوفة الحنابلة الكبار القائلين بوحدة الوجود، الأمر الذي ظهر أثره في تلميذه ابن القيم.
حقاً إن هذا الازدواج حيث يخضع الإنسان لنظامين فكريين متنافرين يتطلبان على الدوام توفيقاً وتكاملاً، لتبدو الشخصية والبناء الفكري للإنسان متماسكا، يتحول عند “الوعي” إلى زلزال مدمر.
ولكن ابن تيمية ادرك تماما انه كان يمتلك من الصفات والمميزات الشخصية العظيمة الكثير مما لا يتمتع به معظم مخالفيه، فكان زاهداً في الدنيا، مجاهداً، مفرط الشجاعة، ساعياً في مصالح الناس، وهذا ما منحه حب العامة ودعمهم، وتقدير السلاطين، والقادة.
كانت العلاقة التي تربط ابن تيمية بطلابه الأقربين منه أكثر حميمية، فابن تيمية عبر تلميذه ابن القيم قد سرب بعضاً من اجتهاداته الفقهية والدينية الكبرى، كالقول بفناء نار المشركين وان مصيرهم بعد ذلك إلى الجنة بحيث لا يبقى في النار أحد.
سنجد لدى ابن تيمية آراء ذات منزع صوفي خالص لا تنسجم مع النسق السلفي الحنبلي الذي كان أحد أكبر المنافحين عنه، ولكننا عبر قصة هنا وهناك يحكيها تلاميذه سنرى ان ابن تيمية كان يؤمن بالكشف والذوق وربما العرفان، فهو يذهب إلى أن السالك إذا وجد أثراً نافعاً لأدعية وأذكار لم ترد عن الرسول، كان له ان يواظب عليها باعتبارها من السنة المأثورة، وهو يحكي ان من داوم أربعين يوماً على ملازمة دعاء لم يرد عن الرسول بين الاذان والاقامة في صلاة الفجر أحيا الله بها قلبه، كما يؤكد ايضا ان المؤمن الصالح قد يهتدي بإيمانه وتقواه إلى صحة مسألة دينية أو بطلانها بما يمتلكه من نور الإيمان وبصيرته.
واما نزعته العرفانية فنجدها فيما يحكيه ابن القيم في مدارج السالكين انه كان يحدثهم بما فعلوه قبل ان يدخلوا عليه، وانه كان يخبرهم عن مغيبات في المستقبل ستحدث، ويؤكد ابن القيم انه رأى احداثاً كباراً قد تحققت، وبعضها لم يقع. وبعيداً عن التفسير أو الموقف الديني الذي يجب اتخاذه إزاء هذه الوقائع والأحوال، وحكم من نسبت إليه، إلا انها تعكس لنا كيف ان الشخصية التيمية كانت تحوي عوالم مختلفة. وشخوصا متعددة، وجزرا فكرية متنوعة. حتى لربما ينطبق عليها لاحقا انها أشبه بغابة كثيفة.
في تصوري ان ابن تيمية لو تأخر زمنه لربما انه كان بالإمكان ان يكون أحد القلائل الذين بإمكانهم أن يقدموا تفسيراً جديداً للإسلام، فهو قد أفلح على الصعيد الفقهي ان يقدم فقها ميسراً متسامحاً واجتهادات جريئة، وخطى بالفقه خطوات اصلاحية ذات بعد اجتماعي جلبت له كثيراً من الأذى والتضييق، غير ان تلك السعة والرحابة قابلها ضيق عطن بآراء كلامية، ومسائل عقدية، على المستوى النظري، ولكن شقها التطبيقي العملي كان أكثر تسامحا مع الخصوم والمخالفين. لو ان ابن تيمية كان أحد اتباع المذاهب الفقهية الأخرى، لربما انه سلم من تلك الشدة والحموضة في جانبها الكلامي العقدي.
لقد كان عقله أكبر من مذهبه، ولكن خيوط خفية نسجتها عدد من العوامل والظروف، والبيئة العلمية التي ترعرع في احضانها، كانت تشده دائما إلى الخلف… فقد كانت العشيرة: قبيلة المذهب تنتظر منه دوماً موقفاً مدافعاً ونصرة، ولم يكن الرجل يخذل أصحابه.
كيف لنا تصور ان من يقول بفناء نار الكفار والمشركين وان رحمة الله أوسع من أن تخلد أحداً في النار وتبقيه ببقائه الأزلي، وان مصير الخلق حتى فرعون كلهم إلى الجنة مهما طال عذابهم في النار، هو نفسه من يقول: انه ثبت التواتر ان كثيراً من الرافضة قد مسخوا في قبورهم قردة وخنازير! فأين هذا من هذا؟.
لقد وفقت كارين أرمسترونج حينما ذكرت أوجه الشبه بين ابن تيمية ولوثر، وتشابه عصريهما في ضمور الاجتهاد واقفال بابه وشيوع التقليد، والاحباط الذي كان يجتاح الجميع والبحث عن مخرج من عنق الزجاجة على شتى الأصعدة، ومن حالة الخمول والانقباض الذي أشار إليه ابن خلدون في مقدمته. يذكر بول تيليش في معرض حديثه عن لوثر ان (لوثر عبر أزمته الروحية توصل إلى قهر كراهيته لله حينما كشف في المسيح الرمز الكامل لحالتنا الإنسانية) لقد كان بإمكان ابن تيمية عبر هذا الخيط: (القول بفناء النار). عبر هذا المفتاح لشخصيته الغنية (الإيمان بعدل الله ورحمته التي وسعت كل شيء).. كان بإمكانه ان يكون لوثر آخر في الإسلام..