الجميع كان متفاجئاً. فتواجد أستاذ الأدب بين ضيوف الحفل بدا شيئاً استثنائياً. فلأكثر من عقدين كان يتم التعامل معه بوصفه (علمانياً) أو (حداثياً). لهذا كان ما طاله من أذى ومن تشويه وتضييق حتى بين أقاربه ومن طلابه أمراً يبعث الرعب في كل من كان متابعاً للقصة منذ فصولها الأولى. صحيح أن هيئته ومظهره لم يطرأ عليهما تغير يُذكر، ولم يزل كما كان دائماً مواظباً على أداء الصلاة في وقتها وفي المسجد. ولكن ماهو أهم من ذلك أن أفكاره ومجمل قناعاته في القضايا الدينية والاجتماعية لم تتزحزح. لأنها باختصار لم تكن تختلف كثيراً عن أفكار مضيفه التي بدت اليوم أكثر عقلانية وواقعية. إذن فلِمَ جرى ماجرى؟
هل أراد مضيفه أن يكفر عن سنوات من التهييج والتأليب كان أحد أشهر موقديها ومحرقي البخور فيها. لقد تبسم أحد الحضور وقال: سبحان الله. أخيراً التقى (العرابان)!
يذكر الدكتور محمد محمود أبو غدير أستاذ الأدب العبري والدراسات الإسرائيلية أن المجتمع الإسرائيلي يجتاز أزمة هوية شديدة مع ضعف إمكانات إيجاد لغة مشتركة بين المتدينين والعلمانيين، خاصة وأن الغالبية العلمانية سواء منها من ينتمي إلى اليمين أو اليسار بدأت تعبر عن رفض صريح للابتزاز الذي يقوم به المتدينون لموارد الدولة.
ومع كل هذا الاحتراب الداخلي إلا أن أبو غدير ينقل لتحديد مفهوم العلماني والمتدين في المجتمع الإسرائيلي أكثر من تعريف، فالإنسان العلماني العادي في رأي البروفيسور يشيعاهو ليغمان الأستاذ في قسم علوم السياسة في جامعة بار إيلان (هو شخص لديه ارتباط ببعض التقاليد الموروثة ويحافظ على عدد من الشعائر الدينية ولكنه ليس متديناً لأنه لا يشعر في نظره بأن الرب كلفه بأداء الفرائض والشعائر الدينية). وينقل عن أحد العلمانيين اليهود: (نحن يهود علمانيون ليس لأننا فاسقون، طائشون أو نستهين بالآباء، بل لأن هذا وعينا، وبسبب هذا الوعي فنحن غير شركـاء للمتدينين في الإيمان الديني، ودون أن نمس المؤمنين فإن سماءنا خالية، ومن المستحيل ملؤها سواء عن طريق الصراخ أو عن طريق الوعظ بالأخلاقيات، فكل المسؤولية عن الحياة ملقاة علينا ولم تفرض من السماء).
ويذكر أبو غدير تعليق الأديب الإسرائيلي المعاصر دافيد جروسمان، والذي يعرف العلمانية بأنها (تستلزم عدم وجود مثل هذه الازدواجية). أي أن يكون الواحد علمانياً ويكون في الوقت ذاته مرتبطاً ببعض الشعائر الدينية وإن اعتقد عدم فرضيتها.
هل هناك علمانيون في السعودية؟. إن في كل مجتمع مهما بلغت محافظته الدينية من يؤمنون بأفكار مخالفة للسائد، قد تكون جذرية وقد تكون دون ذلك بمراتب، ومهما كان أساس تلك التوجهات تفسيراً أوإعادة تأويل للتراث، أو من أرضية فلسفية تتجاوز الثقافة التقليدية الضاربة الجذور. هذه قضية متفق عليها. ولكن السؤال ينبغي أن يطرح كالتالي: هل كل أو غالبية من وصموا بالعلمانية كانوا كذلك؟
مصطلح ومفهوم (العلمانية) ملتبس وعائم، وهذه مسألة لن نعرض لها، فما يهمنا هو أن كثيراً ممن يتحدثون عن مفهوم محدد للعلمانية، لم يراعوا ذلك التحديد عندما مارسوا حملاتهم الرهيبة ضد خصومهم. فالذين نهضوا بالأمر واضطلعوا بتلك المهمة إلى فترة قريبة، هم اليوم يفضلون الصمت، وعدم إثارة مامضى، وإهالة التراب على ماسلف وعفا الله عن الجميع، فمن كانوا يرون المطالبة باستخراج بطاقة شخصية للمرأة، والحديث عن قيادتها للسيارة، والقول بكشف وجه المرأة-والأخيرة اختلفت فيها آراء أئمة المذاهب الفقهية- وتحديد دور (الشيخ) علمانيةً، هم اليوم يرونها مسائل قابلة للأخذ والرد، لاتستوجب التأثيم فضلاً عن التشكيك بإيمان شخص ما.
أبو مساعد معلم متقاعد كان حانقاً وهو يشرب قهوته في مزرعته متهيئاً لصلاة المغرب. كان متألماً مما سمعه من خطيب الجمعة ذلك اليوم. لقد حذر الخطيب من العلمانيين، مبيناً أوصافهم: إنهم يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ولربما حجوا واعتمروا، موضحاً أنهم كالحرباء يتلونون بألف لون، فهم يأتونكم من بوابة سماحة الدين، وباسم تجديد الدين. لن ينادوا بفصل الدين عن الحياة/الدولة جهاراً نهاراً، ولتعرفنهم في لحن القول. يتساءل أبو مساعد: إذا كان هؤلاء هم العلمانيون، إذن لمَ يصلون ويعبدون الله؟ وإذا كانوا لايفصحون عن حقيقتهم، فكيف عرف الخطيب أنهم علمانيون؟ إذن هم علمانيون بالكُمُوءن فقط. بالقوة كما يقول الفلاسفة!
صالح وهو خريج كلية الشريعة يتقدم جماعة المسجد في الصلاة أحياناً، لم يحتمل السكوت حينما كرر الخطيب للمرة الثانية ذكر أوصافه. لقد كاد في الأخيرة أن ينطق اسمه واحداً من الدعاة إلى إفساد المرأة وتحريرها من (العفة). قال: لقد انكمشتُ وقلت سيذكرني لا محالة. ولكنه فضل أن يصفني بالحثالة. لكنني لم أسكت، فقد قدمت شكوى ضده.
صالح ذنبه عند هؤلاء أنه تحدث يوماً في مجلس عام أن للمرأة حقاً بأن تستخرج بطاقة شخصية. قبل يومين فقط منحت السعودية مهلة ثلاث سنوات لاستبدال البطاقة إلزامياً بحفيظة النفوس، وقبل أسابيع قال له مالك الشركة التي يعمل بها. أتاني مجموعة من المطاوعة، وقالوا لي: كيف توظف مثل هذا؟ ألا تعلم أنه صديق لتركي الحمد؟
في الفترة الأخيرة وبعد تفجيرات 12مايو توافد على السعودية عدد من الصحفيين والباحثين الأجانب. كثيراً ماطُرح في اللقاءات التي أجروها التساؤل حول طبيعة العلاقة بين (المتدينين) الإسلاميين، وبين العلمانيين أو الليبراليين في السعودية، ومن حصيلة تلك الحوارات مع مجموعة من الكتاب والمثقفين اتضح لبعضهم أن ثمة خلطاً وتداخلاً، فمن ينادون بإيجاد مؤسسات المجتمع المدني تم تقديمهم على أنهم ليبراليون، ومن كانوا يطالبون بحقوق أكثر للمرأة من الجنسين احتسبوا علمانيين، ومن كانوا ينتقدون المناهج ألحقوا بمن سبق، والطريف في الأمر أن أحدهم ذكر لي أن بعض من تم لقاؤهم ممن لاينتمون إلى فئة محددة جرى اعتبار مظهرهم الخارجي (توفير اللحية أو حلقها) هو الفيصل في الأمر. وعندما تتفق الرؤية (المحافظة دينياً واجتماعياً مع المطالبة بشيء من التحديث السياسي) يجري تصنيف الملتحين بالإصلاحيين، والحليقين بالوطنيين، وأحياناً يكون الشخص ممثلاً لأكثر من توجه، فربما قدم نفسه باعتباره إسلامياً، وبعد شهور أو سنة يقدم نفسه باعتباره ليبرالياً. وربما كان في وقت واحد ممثلاً لتوجهين أو أكثر حسب الطلب. أحدهم قدم نفسه أكثر من مرة باعتباره ممثلاً للوسطية، ولكنه في الوقت نفسه كتب مدافعاً عن القاعدة وزعيمها! في الآن ذاته طرح نفسه باعتباره إصلاحياً. وفي صحيفة محلية دفع أحدهم عن نفسه تهمة (اللبرلة) السائبة موضحاً أنه ليبرالي، ولكن وفق الكتاب والسنة!. إن شح الألقاب والنياشين فيما سبق أعقبه فترة انتعاش وطفرة ، (ومابعنا بالكوم إلا اليوم).
وفي الوقت الذي كان أحدهم يلهث خلف الصحفيين الأجانب بوصفه-كمايرى نفسه- (علمانياً جلداً)، وعلى الأجانب أن يدركوا أهميته وأنه مستعد لأن يكشف المستور وأن يقول مالم يقله أحد، مفضلاً أن لايذكر اسمه الصريح عند النشر! تبدو عدم الثقة والتردد والتناقض حينما أبدا أحدهم تخوفه من أن تطاله أدعية العجائز وابتهالاتهن جراء مقالاته التي ينشرها منتقداً فيها المناهج التعليمية.
إن وصم إنسان ما بالعلمانية.. أوبالحداثة لم تكن آثاره السلبية دينياً واجتماعياً محصورة بمن كانوا يوصمون بها -بحق أو بباطل- في مجتمع ترفض ثقافته هذه القسمة باعتبار المنتمين إليها هم بالضرورة معادون للدين وللقرآن والرسول وثوابت الأمة، وباعتبار أن السماح بهذا التنوع ليس إلا انحرافاً وخرقاً لتعاليم الشريعة، وتمهيداً لنشر الفساد في الأرض، بل لقد كان لها نتائجها المؤسفة حتى لدى من كانوا يقدمون أنفسهم ممثلين لها. لقد بلغ الحال أن اتخذها البعض مباهاة و(تشخيصاً)، فضلاً عن أن كثيراً من أولئك الطيبين لايعون الأبعاد الفلسفية والفكرية لما يدعونه، ولايدركون أيضاً الثمن الباهض الذي يمكن أن يدفعوه جراء تشبعهم بتلك الأوصاف أمام وسائل الإعلام العربية والأجنبية، حتى إذا ما ذاق الواحد منهم مساً من أذىً انقلب الأمر رأساً على عقب، وأخذوا يؤكدون مدى تمسكهم بثوابت دينهم الذي لم يبارحوه أصلاً ولم يناقضوا أصوله، وربما بالغوا في ذلك حد الدفاع عن قضايا وأشخاص لاتكسبهم احترام القارئ بقدر ماتحمله على الاعتقاد بأنهم كاذبون، يلبسون لكل يوم لبوسه. مع إيماني العميق أنه لم يكتب حتى الآن في مطبوعة سعودية ولم يطرح يوماً في وسيلة إعلامية رسمية ما هو دعوة إلى العلمانية، أو يصادم صراحة الثوابت الدينية.
لقد بلغ الحال من الفظاعة أن يدخل معلم الدين الحافظ للقرآن العالم بالسنة عقب مقال نشره، فيقرأ على السبورة عبارات كتبها الطلبة الصغار تصفه بالعلماني، ويعود إلى بيته ليروي له ابنه ماتطلقه ألسنة المعلمين والطلاب عن أبيه من أوصاف، ثم تأتيه مكالمة مصحوبة بمؤثرات صوتية تبعث الهلع من أحد من يتصدرون للفتوى والتدريس تدعوه إلى التوبة والإنابة، ليكون ختام تلك المأساة بتكوين لجنة ثلاثية لاشأن لها إطلاقاً ولاتملك حق مساءلته. فيكون السؤال: لاتناقش. هل أنت نادم؟ هل أنت تائب؟ وينهال جوابه مفحماً رغم بساطته: (لم أكتب مايتصادم مع ثوابت الإسلام، ولا مع التوجه الديني الرسمي للحكومة). صدقوني: لقد ارتبكوا ولم يحيروا جواباً. هكذا بكل سهولة. ثم أُغلِق الملف!
ثنائية الإسلامي/العلماني لها في مجتمعنا السعودي أحاديث وأسمار وملاحم، كان ضحاياها أشخاصاً مخلصين لأمتهم، وكتاباً حادبين على وطنهم، وآخرين ركعاً وسجداً يرجون رحمة ربهم ويخشون عذابه، ومنهم من فاضت روحه إلى بارئها تشكو مانالها من ظلم وقسوة ونبذ وصقيع اغتراب جلل حياتهم لم يكونوا يبحثون عنه. وآخرون يراهنون على الزمن.. مؤمنين أن مانعجز عن قوله، أو نخشى ردة الفعل الصاعقة تجاهه؛ ماعلينا إلا أن نكرره،ونلح عليه.. ليكون يوماً واقعاً مفروضاً يرغم الاخرين على التعايش معه. فالحريات لاتوهب. وإنما تؤخذ غلاباً.
كم كان مفارقة أن يلتقي اثنان ضدان لايجتمعان، كان احدهما يرى الآخر والياً فقيهاً جديداً، والثاني ينظر إليه باعتباره رأس حربة للعلمانيين، مارسا تجاه بعضهما البعض الـتأليب المتبادل. أحدهما راهن على سطوة المجتمع المتدين، والآخر على سلطة المعرفة ومغازلة السياسة. خسر الأخير المعركة كما بدا للبعض، ومضت السنوات بعد هدنة كلحم على وضم. جمعهما مجلس بعد تلك الأيام الخوالي. ليعلنها الشيخ المهزوم: هذا زمانك إني قد مضى زمني.