في السنوات الخمس الأخيرة تشكل محلياً تيار ديني إصلاحي، بدأ هذا اللون الجديد في التخلق أثناء مرحلة فراغ عاشتها الساحة من القيادات الحركية الصحوية “المعارضة” التي كانت تقضي فترة إيقاف في السجون قاربت أربع سنوات. وقد كان غياب القيادات عن الساحة فترة انفراج سمحت بشيء من التنفس وفك الاختناق لدى مجموعة كبيرة من شرائح المجتمع، وهيأت لهذا الجنين أن ينمو تدريجيا، ففي الريف الغربي لبريدة، وعلى كورنيش جدة، وفي مقاهي الإنترنت في الرياض، وفوق رمال الثمامة، بدأت الشرارة الأولى.
لم تكن تتجاوز أفكار هذه المجموعة – في البدء – بعض الاجتهادات غير المشهورة للفقيه الحنبلي ابن تيمية، وبعض الأقوال الفقهية الأخرى، مضافاً إليها بعض أفكار رواد النهضة العربية المعاصرة، إلى خليط من فتاوى القرضاوي، وقراءة لأفكار الجابري، ومفكرين مغاربة آخرين، أفكار وكتابات هنا وهناك بدأت في ساحات الحوار الإسلامية على الإنترنت لتنتقل بعد ذلك إلى صحف ومجلات أفسحت المجال نسبياً أمام هذا النفس الجديد الذي توقع له البعض أن يكون نواة تيار ديني جديد ومدرسة فقهية مرنة، كانت هذه المجموعة قد تلقت العلوم الشرعية في المساجد وعلى يد كبار علماء الدين المحليين.
غالب هؤلاء كانوا ممن تم الإفراج عنهم بعد إيقافهم منتصف التسعينات الميلادية، كان توجهاً جديداً تخلق من رحم الصحوة، ومع الخطوات الأولى كانت ردة الفعل الشرسة من رفاق الأمس بالإقصاء التام وبيانات التفسيق والتضليل، وأرتال من المحاضرات، التي تناولت ظاهرة من سموهم بـ”العصرانيين”.
كانت أحداث بريدة وتفجيرات العليا بعد عام وما أعقبهما انعطافة حقيقية لدى كثير من الإسلاميين في السعودية.
تفجيرات العليا أواخر عام 1995م تلاها توقيف مجموعات من الأفغان العرب وآخرين تربطهم بهم صلة أو علاقة أو أنهم كانوا متعاطفين معهم، وعبر سلسلة طويلة من الموقوفين تم اصطياد كلمة من هنا وكلمة من هناك، ومن حديث عابر في مجلس، إلى رسالة مكتوبة، حتى أمكن الاهتداء إلى منفذي العملية.
التحقيقات كانت قد أفرزت عدداً من القضايا، فقد تم كشف مجموعة ممن شاركوا في القتال الأفغاني لاعلاقة لها بالتفجير. ومجموعة كانت متورطة بالإعداد لعملية سطو على أحد البنوك، أحبطت قبل تنفيذها.
كما كشفت التحقيقات عن محاولة آخرين من (الأفغان العرب) تهريب ماكنة تزوير العملة النقدية إلى السعودية.
قبل وقوع التفجير بشهرين كنت قد التقيت بـ(عبد الحفيظ) وهو مغربي في إحدى الاستراحات بجدة، بدا حزيناً مكسور الخاطر، وكان قد انتحى بأحدهم ناحية وبين لحظة وأخرى كنت أسترق السمع، ظهر لي الحديث مؤثراً، ولم تسعفني كل وسائل الالتقاط عندي لأفهم حقيقة مايدور، بعد دقائق أشار الآخر إلي وقال لعبد الحفيظ : اذهب إليه، ربما يخدمك في هذا الموضوع. عبدالحفيظ حكى لي قصة طويلة عريضة عن زوجته المسكينة المسجونة ظلماً وأن السلطات المغربية طالبت بكفالة مالية مرتفعة للإفراج عنها، ومع دموع عبدالحفيظ رق قلبي، وشرعت بحماس منقطع النظير بجمع التبرعات. لم نتمكن من إكمال المبلغ ولكننا استطعنا أن نوفر له معظمه، وفي السجن تكشف لي كل شيء، لم يكن هناك زوجة موقوفة ولا كفالة، فقد كانت أموالاً جمعت للقيام بعملية سطو على أحد البنوك في المغرب!
كان معنا أحد طلبة العلم من تلاميذ الشيخ محمد بن عثيمين، كان إمام مسجد وقارئاً عذب الصوت وطالب علم، وإنساناً على خلق رفيع، كنا نتساءل عن سبب وجوده بيننا، فقد مضت شهور وهو لم يفصح لنا عن سبب مقنع لبقائه طوال تلك الفترة.غير أن الحلقة لم تكن قد اكتملت بعد ، فمع كل موقوف جديد كانت تتكشف أشياء لم تكن معلومة لنا، وبعد ظهر أحد الأيام تم استدعاؤه .عاد إلينا بعد أقل من ساعة أخذ فيها علقة ساخنة، فسألناه عن الأمرفقال: كان (الاخوة) قد سألوني عن الأموال المودعة في البنوك، فقلت لهم: إن كنا نقول بربويتها، وحرمة تعاملاتها، فأموالها غير محترمة، وكل مال غير محترم فلا حرمة له، ولايجب التعويض فيه، فسألوني عن حكم السطو على البنوك باسم الجهاد، واعتبارها (غنائم) فتوقفت فيها، ولكنني لم أتوقع أن يقوم الاخوة بخطوات عملية. كانوا سيداهمون البنك بالأسلحة، وسيطلقون النار على كل من اعترضهم، أو حاول منعهم والإمساك بهم.
في تلك الفترة كانت تمر بنا ألوان وأطياف من الإسلاميين في السعودية، وكانت أكبر المشاكل أثناء فترة التوقيف تنشأ من ضعف واضح في علوم الشريعة، والاعتماد على أقوال شاذة لاتنم إلا عن نقص في العقل، وكانت تثار مسائل أحياناً حول حرمة أعراض غير المسلمات، وهل الزنا محرم لذاته بحيث يكون ممنوعاً على المسلم ارتكابه مع المسلمة وغيرها أم أنه محرم لغيره، فيجوز فعله مع غير المسلمات، ومنهم من لم يكن يعرف الكتاب أو الاطلاع ولكنه التقط عبارة لأحد متأخري فقهاء المذهب الحنفي (تنص) على أن إقامة علاقة محرمة مع غير المسلمة الأصل فيه عدم الحرمة، ولهذا كان صاحبنا يدفع للغانية حقها بقصد أنه اشتراها كمملوكة، وبعد أن تصبح في ملك يمينه يكون قد جاز له منها ما يجوز للرجل من زوجته.
لفترة غير قصيرة كنا فترة الإيقاف نعاني مشاكل مثل انسداد قنوات الصرف الصحي، والإفساد المتكرر لبرادات الماء، وتكسير الصنابير، وبعد فترة تكشفت لنا أسبابه حينما علمنا أن أحدهم هو الذي كان يتولى مهمة إفساد كل ذلك، فقد كان يراها مرافق تابعة للدولة، والدولة كافرة، وبما أنها كافرة فلم يكن لديه مانع من أن يفسد منها كل ماوقع بيده، حتى وإن كان ضرر ذلك يعود عليه وعلى من معه.
مع نشوء أي خلاف إثر الاحتكاك بين النزلاء وبين العاملين، كان المطلوب دائماً أن تشهد لـ(أخيك) مهما كان مخطئاً ضد جنود الطاغوت، حتى ولو كذبت. ولا يجوز لك أن تقف في صف جنود الطاغوت. فشهادتك ضد أخيك أكبر مايكون من الخيانة.
صديقي ع.م. كان متعاطفاً مع شباب الجهاد، لم يتمكن بحكم قربه منهم أثناء التوقيف واجتماعه معهم تحت سقف واحد أن يكون أكثر حرية في اختيار حياته الجديدة، لقد قرر أن يعيش أكثر إنسانية وأكثر محبة للآخرين، بعد الإفراج عنه أكمل تعليمه واضطرته قلة الفرص أن يعمل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، محب للحياة، يسمع الموسيقى، ويؤمن باختلاف آراء الفقهاء، طبيعة عمله اضطرته أن يبدو كما تفرضه عليه وظيفته. كثيراً ما تم استدعاؤه ورفعت الشكاوى ضده من رئيسه المباشر إلى رئيس هيئات المنطقة. كانت الشكوى دائماً: ( لديه أفكار منحرفة .يناقش في الموسيقى. يرى أن إجبار النساء على تغطية وجوههن مخالف لسماحة الدين. متأثر بأفكار القرضاوي)!. صديقي منذ خمس سنوات مثال للمواطن الصالح. محب لوطنه. محب لدينه. يخاف الله. بعيد عن الشبهات.ولكنه يلاقي الأمرين في عمله. يا ترى هل لوكان ممن يعلنون تأييدهم للقاعدة ومحبتهم لابن لادن هل كان سيلقى ذلك التضييق والأذى؟
كثير ممن كانوا يوماً من المتعاطفين أو المنخرطين في الفكر (التكفيري الجهادي) ، يتم الإفراج عنهم، ويكونون عازمين حقاً على أن يكونوا أناساً طيبين ومواطنين صالحين، ولكن التفاف تلك المجموعات المتطرفة من حولهم، وعودة أصحابهم القدامى إليهم، وإظهارهم لهم بأنهم كانوا أبطالاً ورجالاً شجعاناً وقدوة لغيرهم، يكون سبباً في عودتهم إلى سالف عهدهم.
إنهم يحتاجون منا إلى أن نقف معهم وأن نبث فيهم روح الثقة بنفوسهم، وان بإمكانهم أن يكونوا أفضل، وأن يعاملوا على أنهم أبناؤنا وفلذات أكبادنا، وأن نسمع منهم بصدور رحبة، وإذا كانت الحكومة السعودية تقوم برعاية عوائل وأسر الموقوفين منهم، حيث تتكفل بالإنفاق على عوائلهم وزوجاتهم وأبنائهم وتدفع أجور سكنهم، وتقف معهم حتى بعد خروجهم بتوفير العمل لبعضهم، والتعامل معهم كمواطنين صالحين، فإن على الواحد منهم أن يعلم أن القسط الأكبر يقع على عاتقه ليثبت حقاً أنه قد قاطع كل تلك الأفكار والتوجهات الخاطئة، وليعطي الآخرين رسائل تشعرهم بالارتياح والطمأنينة.
كانت الثماني عشرة سنة الماضية مضماراً لمحطات مررت بها، وتحولات عشتها لحظة بلحظة، مرت بها (الصحوة) والظاهرة الإسلامية في السعودية، وعشتها مع كل انعطافة، وكل عثرة، قريباً منها، ومنخرطاً فيها، وخصماً لقياداتها، ومقولاتها، ثم ناقداً لها.
كانت تلك الفترة مخاضاً مستمراً نتيجة أحداث محلية، ومتغيرات إقليمية، ومنعطفات عالمية، انعكست على الفكر الديني في منطقتنا.
بين بريدة والرياض وجدة وأبها عشت مراحل، ظهرت في مواقف وأحداث وتجارب شخصية، وقبل الإفراج عني من سجن الرويس بجدة عام 1997كنت قد حددت هدفي، ورسمت الإطار الذي من خلاله يمكنني التأثير والتعبير، كتبت أول مقال لي في صحيفة الحياة اللندنية، وكانت بدايتي خطوات على استحياء، ومع العقبات التي واجهتُها، والحملات الشرسة العدائية التي كشفَتء عن أسوأ ما يمكن أن يظهر عليه الإنسان حينما يوظف الدين واسم الرب لتبرير وحشيته وشروره ونوازع الطغيان القابعة في كهوف نفسه الأمارة بالسوء؛ إلا أنني أكملت المسيرة، ولم ألتفت لكل الأصوات المنكرة، وأغلقت سمعي عن عذل الأصدقاء، وتوجع الأحباب مما نالني ونالهم من الأذى، ولكنني كنت مصراً على مواصلة المسيرة، وكانت ولم تزل قناعتي دائماً أن الحرية لا توهب، وإنما تؤخذ غلاباً، وأن شيئاً من تصرفاتنا وقناعاتنا وكتاباتنا مما يشعر الآخرون تجاهه بالاستنكار والرفض، ليس علينا إلا أن نكرره لنجعله واقعاً مفروضاً. غيرمقبول من الأكثرية..نعم..ولكنهم يتفهمونه، ويتعاملون معه.هذا بحد ذاته نجاح.
امنحوا الآخرين فرصة، أشعروهم أن بإمكانهم أن يكونوا أفضل..ولنتذكر تلك الكلمة التي قالها أحد خصوم فولتير: (لا تكسروا رأسه فقد يخرج من ذلك الرأس شيء صالح). واليوم وأنا أقارن حياتي السابقة بما أنا عليه الآن لأتذكر تلك العبارة التي وردت على لسان زوربا حينما قال: (.. كثيراً مايكون التجسس على المستقبل واستعجال النسق الأبدي، ومحاولة الإمساك بالخيوط قبل أن تولد انتهاكاً للقدسيات).
أنا اليوم مدين لهذا الوطن، الذي منحني الفرصة أكثر من مرة، ومع كل ما مررت به من منعطفات لم أشعر يوماً أن إذلالاً نالني أو أن كرامتي امتهنت، فشكراً لكل الذين وقفوا بجانبي.