كان البيان الذي أعلنته وزارة الداخلية السعودية عن التسعة عشر الذين أعلنت أسماؤهم ونشرت صورهم صادماً ومفزعاً ومثيراً للخوف والهلع، لكمية الأسلحة والمتفجرات وأدوات التدمير التي كانت بحوزتهم، ومقدار الدمار الذي من الممكن أن يلحق بالبلد والمقيمين فيه جراء استخدامها. إنها المرة الأولى التي تبث وسائل الإعلام بياناً يدعو المواطنين إلى التعاون مع الجهات الأمنية لتتبع هؤلاء الأشخاص وتسهيل مهمة الإطاحة بهم والقبض عليهم.
شاركت أسماء كثيرة في التعليق على بشاعة هذه الحوادث الإرهابية التي يرفضها الدين والعقل السليم… وعادت عبارة كثيراً مارددها المسؤولون والكتاب وبعض الشيوخ: (أن ما حصل ليس إلا فكراً وافدا دخيلاً).
كم كان طريفاً ومحرجاً حينما دعي أحدهم للمشاركة في ندوة حول حادث كشف الخلية، حين ألمح إليه المستضيف أن المطلوب منه أن يتحدث عن خطورة هذا الفكر الوافد الدخيل، فقال: أنا لاأراه دخيلاً، بل أعتقد أن له جذوراً في ثقافتنا الدينية، وفي مناهجنا التعليمية، هذا ما لم يكن أحد يحب سماعه. كان المطلوب دائماً أن تلقى التبعة على أشباح غير معروفة، أو على جهات ما خارج الحدود بعيداً…في الوقت الذي تعج فيه مؤسسات التعليم ومدارس التحفيظ والمساجد بالمتعاطفين مع أفكار المجاهدين وابن لادن وتنظيم القاعدة، وفي الوقت الذي كنت تسمع فيه الدعاء والقنوت من أئمة المساجد بأن ينصر الله (المجاهدين).
كان ولم يزل فكر الجهاد يلقى تعاطفاً من شرائح متعددة من المجتمع السعودي ذكوراً وإناثاً عجائز وشيوخاً شباباً ومراهقين إلا من رحم ربك، لتكتمل الفاجعة حينما يصف شيخ من مقدمي البرامج الدينية ابن لادن بالشيخ المجاهد! إلا أن ماكان سيحدث قبل أكثر من شهر بسوق المحمل في جدة -لولا أن سلم الله- ربما يكون صدمة كبرى يفيق على إثرها المتعاطفون، حينما يدرك الواحد منهم أنه قد يفقد ابنه أو أمه أو ابنته أو زوجته، جراء تفجير يقوم به بعض من ينبض قلبه بحبهم ومن يمنحهم دعواته الصادقة.
بعد الحادي عشر من سبتمبر أفتى مجموعة من المشايخ (السعوديين) بشرعية تفجيرات غزوتي منهاتن وواشنطن، تلتها فتاواهم المؤيدة أثناء وبعد الضربة الأمريكية لطالبان، ووردت أسماء مجموعة منهم في تقارير المخابرات الأمريكية، وجاءت أسماؤهم والإشادة بهم في أحد أشرطة بن لادن المصورة، أُخذ على بعضهم تعهدات خطية- لم تردعهم لاحقاً عن مواصلة نشاطهم- بعدم الإفتاء، كونهم ليسوا من المخولين بالفتوى في الوقت الذي كانت شعبيتهم تكتسح كل ما أمامها.
بعد وفاة أحدهم نشرت أكثر من صحيفة سعودية محلية تقارير تشيد بعلمه وتقواه وشجاعته في مقام الحق، وبعد أن نشرت صحيفة أخرى تقريراً عن تورطه في فتاوى خطيرة ليس أقلها إفتاؤه بكفر الحكومة، وأن إطلاق النار على رجال الأمن عند القبض والمساءلة حق مشروع، كانت عاقبة ذلك التقرير زلزالاً ويوماً أسود في تاريخ الصحيفة، لم تزل ذكراه عالقة في أذهان الكثيرين.. آلاف الاتصالات والشتائم كانت تنهال على المحررين وموظفي السنترال، وتهديد بتفجير مبنى الصحيفة. حينها خشيت الصحيفة على انخفاض مستوى التوزيع في منطقة يمثل الشيخ أحد أبرز علمائها، وبعد يومين قامت بنشر اعتذار مخز لطلاب الشيخ الراحل ومحبيه.
كانت الصحيفة قد استشهدت بتصريح للأمانة العامة لهيئة كبار العلماء استناداً على مانشرته زميلة لها، تنفي فيه كون الراحل من العلماء المخولين بالفتوى، اضطرت الأمانة تحت الضغوط الهائلة التي تعرضت لها إلى تكذيب الخبر ومطالبة الصحيفة بنشره، وعند سؤالهم عن رأيهم في فتاوى الشيخ الراحل التي تبرر التفجيرات الإجرامية لاذوا بالصمت! فأي فكر دخيل هذا الذي يتحدثون عنه؟
منذ تفجير العليا عام 96وحتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001ومعظم المعلقين والكتاب والمسئولين السعوديين يصرون على ترديد عبارة مخجلة وهي: أن كل ماحدث ويحدث ليس إلا نتاج فكر دخيل ووافد، وأن أبناءنا تم التغرير بهم، وكم تكون الفرحة عارمة حينما تكشف أجهزة الأمن عملاً تخريبياً يتم إفشاله، أو حينما يتم القبض على مجموعة متورطة في أعمال مخلة بأمن البلد تظهر التحقيقات مشاركة أشخاص من غير السعوديين فيها، ليكونوا شماعة تعلق عليها كل تلك المصائب، ليتم في المحصلة ترسيخ فكرة كريهة -دون وعي ممن أطلقوها- لدى الجميع مؤداها أن أبناءنا ليسوا إلا مجموعة من العجماوات تقاد على عماء، وأنهم ليسوا إلا ألعوبة بيد كل من أراد توظيفهم للإساءة إلى بلدهم ومواطنيهم.
إننا كثيراً ما نلقي باللائمة في كل ماحدث على الأخوان المسلمين الذين آوتهم السعودية منذ الستينات. ولكننا نعلم أن الأخوان المسلمين تم استضافتهم عن معرفة تامة بتاريخهم ومواقفهم من حكوماتهم، ومع كل ذلك الوعي لخطورتهم مُكِّنوا من التغلغل في المؤسسات التعليمية في بلد تمثل السلفية الحنبلية الوهابية شرعيته الدينية الرسمية.
في فترة لاحقة، كما يذكر ذلك الكاتب السعودي علي العميم اكتسب الفكر السلفي حيوية الفكر الإخواني وفاعليته من ناحية تفعيل دوره الاجتماعي والثقافي والتربوي، وعدم الاقتصار على الدور المسجدي العبادي والعلمي والوعظي المحدود، وفي السبعينات الميلادية إلى ما بعد منتصف العقد الذي يليها، كان الإخوان المسلمون سواء أكانوا سعوديين أم غير سعوديين، يميلون إلى سياسة احتواء الفكر السلفي ورموزه في السعودية وفي خارجها، وكانوا يعاملونهم بمنتهى التبجيل وغاية اللطف والرفق واللين، وذلك لجذبهم إلى صف سياساتهم، إن لم يكن تأييداً فعلى الأقل تحييدهم سكوتاً، بحيث يضمنون أنهم لن يشددوا على اختلافاتهم وخلافهم معهم دينياً، لأن تشديداً كهذا – حسب العميم – سينجم عنه التأكيد على عدم استقامة عقيدة الإخوان المسلمين. وكانت تقف وراء سياسة الاحتواء المُلاينة هذه التي اتبعوها مع الفكر السلفي ومشايخه، مجموعة من الأسباب كان أهمها أن فكرهم في نسخته القطبية (نسبة إلى سيد قطب)، والمودودية(نسبة إلى أبي الأعلى المودودي) هو المعمول به في مناهج تدريس العلوم الدينية في السعودية، وفي مناهج الثقافة الإسلامية وفي قراءة التاريخ الإسلامي، كما أن جمعيات التوعية الدينية والمناشط اللامنهجية والمراكز الصيفية كانت تصاغ العقليات، عقائدياً وثقافياً وتربوياً، فيها وفق رؤيتهم الحزبية والأيديولوجية. هذا ملخص لرؤية العميم الذي كان أول من لامس الجرح في مقاله الذي نشرته الشرق الأوسط بتاريخ
2002/9/13التنقيب في تراث وفتاوى علماء أئمة الدعوة (الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتلاميذه) فيما يخص مسائل تكفير المسلم، وشروط تكفير المعين وموانعه، ومسوغات الخروج على الحاكم، أبرز الوجه الآخر واستخرج كنوزاً عانت من تراكم الغبار، وأفكاراً أصابها الضمور، تم توظيفها سلاحاً فتاكاً لتكفير الحكومة، وتسويغ الخروج بالسلاح عليها.
شكلت حرب الخليج الثانية منعطفاً هاماً في تطور مراحل هذا الفكر، كما أنها أعادت تشكيل الظاهرة الإسلامية في السعودية بعامة، حيث تم تطعيمها بأفكار أكثر جذرية وراديكالية، كما أن الملمس اللين لحركيي الصحوة وقياداتها التاريخية، تكشّف عن وجه أكثر شراسة.
بمشاركة آلاف من السعوديين في الجهاد الأفغاني، إبان الاحتلال السوفيتي، تمكنوا من الاختلاط بالجماعات الإسلامية الأخرى التي عرفتها المنطقة العربية، كالجماعة الإسلامية، والجهاد المصريتين، وجماعة التكفير، و(الوقف والتبين).
وليس سراً أن منشورات هذه الجماعات التي تركز على كفر الحكام والأنظمة العربية، كانت تدخل السعودية ويتم نشرها عبر الأفغان العرب، وقد تمت مصادرة مجموعات كثيرة من هذه المنشورات والكتب من العائدين إلى السعودية في الجمارك والمطارات، وكان كتاب المقدسي (الكواشف الجلية في تكفير الدولة السعودية) واحداً من أهم الكتب التي سربت إلى الداخل.
مؤلفات عصام البرقاوي المعروف ب(أبو محمد المقدسي) كانت نكهة جديدة، حيث قدم توليفة جديدة ومزيجاً من الرؤية التكفيرية للمجتمعات الإسلامية بمنظور إخواني (قطبي)، مستندة على فتاوى علماء نجد فيما يخص قضايا تكفير الحكام ومسوغات الخروج بالسلاح، والولاء والبراء لوازمه ونواقضه، وكان تفجير العليا على أيدي إسلاميين سعوديين مولوداً شرعياً لهذا الفكر الذي مزج بين الرؤيتين وفصلاً جديدا في مراحل تاريخ هذا الفكر.
قبل سنوات أوقفت مجموعة من الشباب كان بعضهم متهماً بتكفير الحكومة، وبعد عرضه على القضاة، استعرض صاحبنا ما لديه من أدلة شرعية يبرر بها قناعته. لم يتراجع أبداً عن موقفه. لم تكن أدلته من مؤلفات سيد قطب، ولا من أفكار حسن البنا،كان هؤلاء في نظره لايمثلون الإسلام النقي الصافي، بل استدل بابن حنبل، وابن تيمية، وابن عبدالوهاب، وسليمان ابن سحمان، وحمد ابن عتيق. لم تنته القصة؛ فصاحبنا لم يتراجع بل أصر على أن يناقشه القضاة فإن كان على حق تبعوه أو عذروه، وإلا تاب من زلته إن بينوا له خطأه. تحاشت لجنة القضاة الدخول معه في جدل، ولكي يتم الإفراج عنه، كان لابد من أن يوقع تعهداً خطياً بالتوبة من أفكاره المنحرفة، وقع صاحبنا التعهد وخرج بأفكاره التي دخل بها، بعد فترة تم تعيينه إمامأً في مسجد حيه، وبعد سبتمبر خطب يوم الجمعة وأمام المئات دعا الله أن ينصر عبده المجاهد أسامة بن لادن، وأن يمحق المنافقين والمرتدين مثل غازي القصيبي وتركي الحمد!
أليس من المفارقات أن يتم رفع المنع عن أحد المنظّرين لفكر القاعدة وأن يفسح له المجال ليباشر التدريس والتعليم في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه وسائل الإعلام خبر الخلية الإرهابية!
وبعد كل هذا أيحق لنا أن نقول عن كل ماحصل عندنا إنه لم يكن إلا فكراً وافدا ودخيلاً؟