الشيخ أحمد الكبيسي رئيس جمعية علماء العراق، أحد الذين برز نجمهم مع ثورة الفضائيات، وتعمقت معرفة الجمهور والمشاهدين به مع برنامج الفتاوى المباشر الذي كانت تبثه بصفة شبه يومية قناة دبي.
الكبيسي واحد من أعضاء مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، وكان لبعض اجتهاداته الفقهية وتفسيراته المحدثة لبعض آيات القرآن والأحاديث النبوية المتعلقة بالفتن و آخر الزمان ردود أفعال واسعة.
في لقاء أجرته صحيفة الشرق الأوسط نشر أول أمس الثلاثاء، قال الكبيسي: (إن من الخسة أن تكذب وتدجل وأن تدعي أنك تريد أن تقيم دولة إسلامية، وأنت لم تستطع طوال 15قرناً أن تقيمها حتى عندما كنت في أوج قوتك وفي وجود جيشك)، مؤكداً أنه ما من عباءة أشد فرقة من العباءة الدينية، ولذلك لا ينبغي ان تقوم حكومة دينية في العراق اليوم. ويقول بالحرف الواحد: (نحن لا يجب ان نجعل دين الدولة على مذهب واحد، نريد دولة شعبها مسلم يتمتع بحريات كاملة دون ان تمثل طائفة بعينها).
هذه الرؤية التي قدمها الكبيسي لعراق جديد تشابه إلى حد كبير رؤية أبو الحسن الندوي المفكر الهندي الذي كان يرى -بعد انفصال باكستان عن الهند – أن (العلمانية) هي أفضل وضع يمكن أن يعيشه المسلمون في الهند بحكم كونهم أقلية، ولاستحالة إقامة دولة إسلامية بحيث تحمي العلمانية/الديمقراطية حقوقهم، غير أن المثير فيما ذكره الكبيسي أن الوضع في العراق مختلف تماماً، فالكبيسي يؤكد أن إقامة (حكومة إسلامية) أمر مستحيل، مستشهداً بالتجربة التاريخية للمسلمين عبر خمسة عشر قرناً، مؤكداً من غير أن ينطق أن دولة الإسلام أمر قائم وحكم مستقر مع كل مامر بالأمة من فترات ضعف وانحطاط، ومع كل ماتوالى عليها من خلفاء وحكام وملوك ورؤساء تفاوتت درجات تمسكهم بالشريعة وشعائر الإسلام مادام أن المجتمع يمارس واجباته الدينية ويحظى بحقوقه بشتى مذهبياته وطوائفه، فدولة الإسلام باقية مابقي المسلمون.
الشيخ بفطنته يدرك تماماً أن السنة في العراق أقلية إزاء الشيعة الذين يشكلون 60%، وأن هذا التنوع الطائفي بحد ذاته كفيل بنشوء خلاف كبير سني- شيعي حول تصور إقامة دولة إسلامية في بلد متعدد الطوائف والإثنيات.
صحيح أن القيادات السياسية الدينية لكلا الطائفتين دأبت على تأكيد أن السنة والشيعة متكاتفون فيما بينهم، وانهم لحمة واحدة….و…و، إلا أن الواقع يقول خلاف ذلك، ومثال واحد يكفي وهو ظهور آثار الخلافات الشيعية – الشيعية إلى العلن، وتصفية الحسابات التي أعقبت سقوط نظام صدام بين علماء الحوزة وأتباعها.
تأكيد الكبيسي على أن المسلمين لم يتمكنوا من إقامة دولة إسلامية طوال 15قرناً، وأن من الدجل والكذب خداع الناس بعباءة الدين، والسعي لإقامة حكم إسلامي، هو أمر مثير للغاية، فلأول مرة -حسب علمي- تصدر من عالم ورجل دين تصريحات جريئة بمثل هذا الوضوح والحدة، وقبله أكد رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق السيد محمد باقر الحكيم أنه لايمانع في إقامة حكم علماني.
الكبيسي كان قد ألقى خطبته الشهيرة في 2003/4/18في جامع الأعظمية عقب سقوط نظام البعث يطالب فيه الأمريكان بالرحيل، ولكنه لم يلبث أن خفف من خطابه ليدعو الأمريكان إلى إكمال مابدأوه وأن عليهم ان ينفذوا مالتزموا به، من إعادة إعمار العراق وترسيخ الديمقراطية، وبعدها عليهم ان يرحلوا، وعند سؤاله عن اختلاف موقفه(المتناقض) في الحالتين، قال إنه التكتيك كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم)، مؤكداً أن رهانه سيعتمد بشكل كلي على الحوار مع الأمريكان بالمظاهرة والمقالة ومن خلال الأمم المتحدة وشرعية حقوق الإنسان ومعاهدة جنيف.
هذه رؤية سياسية واقعية لما يجب أن يكون عليه العراق يقدمها أحد أشهر علماء المسلمين في العراق، وكانت قناة العربية ليلة الثلاثاء الماضي قد أجرت لقاءً مع الكبيسي، وقد علق غاضباً على مداخلة أم محمد من بريطانيا حينما طالبت منتقدة الشيخ بمواصلة جهاد النفس ضد المحتلين بقوله: (قاتلك الله، أيتها الخائبة)!
راهن الكبيسي على مفاهيم الحداثة :الشرعية الدولية، واتفاقيات جنيف، وحقوق الإنسان، ناسفاً ماعداها من شعارات تقتات عليها الحركات الإسلامية، ومصدر شرعيتها (إقامة الدولة الإسلامية). فهل حقاً تشكل تلك قناعة راسخة لدى الشيخ بأن تلك الأطر والمفاهيم التي تشكل ثقافة (المحتل الغازي) هي الضمان الحقيقي لأن ينال الإنسان العراقي بمختلف أشكاله الطائفية والعرقية كرامته؟ وأن شعارات (الإسلام السياسي) والسعي لإقامة حكومة مسلمة ليس إلا دجلاً وكذبا؟ وهل هذا يشكل انقلاباً حقيقياً في رؤية الشيخ أم أنه تكتيك؟
بعد الحملة الأمريكية على طالبان ووقوع مئات من مقاتلي القاعدة في الأسر، وإيداعهم معتقل جوانتنامو ردد كثير من الإسلاميين والخطباء والمشايخ عبارات مثل حقوق الإنسان، واتفاقية جنيف في معاملة الأسرى، لتذكير أمريكا بالمعاملة الكريمة التي يجب أن يعاملوا بها.
المفارقة أن كثيراً ممن رددوا تلك العبارات، كانوا مؤيدين لجرائم طالبان في مزار شريف ضد الشيعة، ومنهم رموز أخذت على كاهلها إثارة الفتنة الطائفية في كل مناسبة تستدعي ذلك، ومنهم من يطالبون اليوم بإقامة حد الردة على كتاب ومفكرين ومثقفين، فكيف يفهم هؤلاء حقوق الإنسان؟
يستحيل أن يستوعب خطاب يكرس الكراهية تجاه الآخر دينياً أو طائفياً، ويسوغ العنف بكل أشكاله ضده، ويصنف المجتمع والمواطنين على أساس ديني، ومذهبي يستحيل أن يستوعب مفاهيم حقوق الإنسان. إذا أخذنا في الاعتبار أن الأصابع مازالت تشير إلى عرابيه بالتورط في توفير الفتاوى والمشروعية الدينية لغزوتي واشنطن ومنهاتن.
إن الفلسفة التي تقوم عليها مفاهيم حقوق الإنسان، تتصادم في الجوهر مع ثقافة تنتج هذا الخطاب.
نسمع ونقرأ لكثير ممن يذكرون ديمقراطية الغرب بخير، ويدعون إلى فصل السلطات وحق الإنسان في التعبير، وحريته في النقد، غير أنه يغيب عن هؤلاء -ممن يعتلون المنابر داعين فيها إلى محاكمة كاتب ما أو روائية أمام القضاء- أن المدى الذي يؤكد فيه مجتمع ما قيم التعبير عن الذات يشير إلى أن لديهذا المجتمع قدرة احتمال أقوى لظهور واستمرار المؤسسات الديمقراطية كما تؤكده البحوث والدراسات.
كثيراً ما يُطءرَحُ سؤال يضرب في الجذور وهو: هل لمباديء حقوق الإنسان أن تتجاوز حدود العقائد والثقافات؟ وهل من الممكن أن تستوعب مجتمعات تعتمد في ثقافتها على الدين، وتشكل بعض التقاليد الاجتماعية ثوابتها وهويتها مفاهيم المساواة والحرية في التعبير والانتماء الديني؟
لدى كل إنسان جذور قيم فطرية طبيعية، منها قيم متعالية كحب الحقيقة والخير والجمال، ومنها قيم أدنى مرتبة ولكنها أيضاً قيم انسانية مشتركة بين مختلف الثقافات والمجتمعات، وتكون تلك القيم حاضرة ولها الصدارة والألوية في تحديد سلوك المجتمعات ونظرتها الى الحياة وتنظيم علاقات أفراد المجتمع الواحد فتضع بصمتها وتميز خصوصية الثقافة.
وكل قيمة يمكن النظر اليها بمفردها، ولنا حينئذ أن نتحدث عن قيم متعالية تتجاوز الزمان والمكان وتصنع التاريخ، أو داخل منظومة ثقافية معينة تضفي عليها معنى خاصا ونكهة تميزها عن مفهومها عند ثقافات ومنظومات حضارية أخرى.
لا تحظى حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي حتى المعاصر منه، بمكانة ذات أهمية، ولا تطرح تلك الحقوق على بساط البحث في تلك المراجع بوصفها معايير متميزة في الحقوق، وإن كان بعض الإسلاميين المحدثين يعتذرون عن ذلك بطريقة العرض التقليدية للقانون والحقوق في التراث الإسلامي حيث يتم علاجها في إطار مباحث أخرى متعلقة بقانون الأحوال المدنية الشخصية وقانون العقوبات والقانون الاقتصادي (مراد هوفمان).
وهناك من يرى أن غياب مفهوم حقوق الإنسان وكونه من قبيل اللامفكر فيه أصلاً في تراثنا الفقهي والتشريعي ناتج عن العقلية التقليدية التي تهدف إلى إرساء نماذج وأنماط ثابتة في شتى مناحي الحياة، مما ساعد على ضمور الكثير من المفاهيم والقيم الإسلامية الأساسية، ومنها مفاهيم “التحرر والحرية” إضافة إلى تراث فكري وثقافي غير قليل يؤصل لمصادرة بعض هذه الحريات تحت شعار قتل المبتدع و..و..ويرون أنه تراث فكري مأزوم ليس لنا أن نعتبره تعبيراً عن تعاليم الإسلام وقيمه الأصلية، مدعين أنه بمجموعة من العلل تم إحباط الكثير من محاولات الاصلاح في هذه الأمة وصودرت آثار تلك المحاولات ودمرت (طه العلواني).
والحق أن مبدأ حقوق الإنسان نتاج فكري غربي خالص، فالثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان أحدثا تحولاً وانقلاباً في الفكر وبداية جديدة ومنعطفاً في مسيرة الحضارة الإنسانية، مما ساهم في خلق وعي أممي بأهمية حقوق الإنسان، بحيث أعادت المجتمعات ترتيب أوراقها ومراجعة تجربتها ونقد ذاتها، وما البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام الا إستجابة لهذا التحدي، وعرفاناً بأثر أوربا وجميلها على الإنسانية عامة.
إذا كنا نؤمن إيماناُ جازماً أن الإسلام الذي جعله الله سعادة الإنسان صالح لكل زمان ومكان، فعلينا أن نري الآخرين كيف نمارس قيمه ومبادئه وأخلاقياته. وإذا كنا ندعي أن لدينا حقوقاً للإنسان وأن لنا خصوصيتنا الثقافية التي تؤطر هذه الحقوق، فعلينا أن نثبت تميزها وتفوقها.
يستحيل أن نتجاهل حقيقة تقول إن ثمة تنافراً وتناقضاً ينشأ من أثر التصادم بين مفاهيم التنوير والحداثة (حقوق الإنسان) مثلاً، وبين ثقافة المجتمعات المهيمنة، فالتقاليد التاريخية الدينية تركت بصمة دائمة على القيم المعاصرة للمجتمعات، ولكننا نعلم أيضاً أن بإمكان أي ثقافة أن تستوعب مفاهيم جديدة، وعند الحديث عن الخوف على الهوية، فالهوية لم تكن يوماً نسقاً مغلقاً بل نسق مفتوح، وهويتنا الإسلامية الناجزة ليست دائرة مقفلة، أو جوهراً فرداً لا يقبل الاختراق أو التفاعل مع الآخر، بل هويتنا تتشكل على الدوام.
ثقافة أي مجتمع بطبيعتها تمتلك قدرة خارقة على التكيف والتوفيق حينما يتجاور داخل ثقافتها وسوق قيمها المعقول واللامعقول، الغيبي بالأسطورة، والإيمان بالدنيوية، لتشكل بانوراما من القيم تظهر آثارها في سلوكيات المجتمع وتصبغ لونها على رؤيته للكون من حوله، قد يبدو ذلك للمحلل والدارس أعراضاً مرضية، وداء دوياً في المجتمع، ولكن مجتمعات قابلة على احتمال ألم وعذاب لافكاك منه، هي بالتأكيد تمتلك قابلية أكثر للتكيف مع مابه تلبية حاجاتها المعيشية، وضروراتها المتجددة، وكما استوعب نظم القيم داخل الثقافة العربية – الإسلامية موروثات من مشارب متعددة، عمرت الساحة الثقافية العربية منذ أواخر العصر الأموي، مما رآه البعض ثروة وغنىً، ولكن هذا الغنى في سوق القيم التي تشكل الثقافة العربية المعاصرة، قد يكون-والعبارة بتصرف مستعارة من الجابري – (غنى من ذلك النوع الذي يقوم على مجرد الكثرة ويفتقد القدر الضروري من النظام الذي يخرجه من الفوضى ويجعل منه قوة.إنه في هذه الحالة يعكس خللاً بنيوياً ووضعاً قلقاً…مما عكس ويعكس كما الحال اليوم أزمة عدم ظهور حركة إصلاحية جذرية تعيد الترتيب في مجال القيم).
إن للثقافة تأثيراً دائماً على الكيفية التي تتطور بها المجتمعات، ولكن لايمكن للثقافات أن تكون القدر المحتوم لهذه المجتمعات، فهل نعتبر تصريحات الشيخ الكبيسي المثيرة ورؤيته الواقعية لعراق جديد رهاناً على الإنسان، ومباديء حقوق الإنسان، وطلاقاً بائناً لشعارات طالما أهلكت الحرث والنسل؟ إلا أن مواقفه إبان حكم صدام واستماتته في الدفاع عن نظامه الغابر تثير أكثر من علامة استفهام حول جدية أفكارالشيخ الثورية.