منصور النقيدان
منذ الفترة المبكرة للإسلام بزغت مدارس كلامية انشغلت بتوسيع دائرة الإسلام، وإيجاد مفهوم للمسلم المؤمن، الذي يرضى الله عنه، حتى ولو لم يلتزم ظاهرياً بالفرائض والواجبات، وكانت مدرسة (الإرجاء) إحدى أكثر المدارس المتسامحة التي واجهها فقهاء المحدثين، وواجهها بعض من الخلفاء والأمراء بالقمع والتضليل.
مدرسة الإرجاء -التي كان الإمام أبو حنيفة من بواكيرها في صورتها الأولية، قبل أن تتوسع بعد ذلك دائرتها، وترسخ فلسفتها- كانت نتيجة للصراع والصدام الذي أحدثه ظهور الخوارج الذين يكفرون بالذنوب ويقتلون عليها، وقاموا بثورات عديدة ضد ما وصفوه بظلم الولاة. ولكنهم أيضاً في فترات لاحقة كان بعض منهم من رواد هذه المدرسة، بالموازاة مع ذلك بزغت مدرسة أخرى كانت نواتها في بغداد ثم انتعشت بعد ذلك في الأندلس، وهي مدرسة «فقه الظاهر» التي تقوم على تضييق دائرة الحرام، وتوسعة دائرة المباح. كانت شبه احتجاج على تشدد الفقهاء.
لم يُكتب لهاتين المدرستين الاستمرار والدوام، كلتاهما تعرضتا للتشويه والهجوم والتضليل والتكفير أحياناً. في المقابل كان فقهاء أهل الظاهر أكثر حدة وشراسة وتمرداً. انتعشت في تلك الفترة أكثر صور التصوف الإسلامي تسامحاً، أي التصوف القائم على الحقيقة والباطن، الذي تزامن صعوده في الوقت نفسه مع بروز مذاهب باطنية قائمة، تشظت لاحقاً وتذررت إلى مذاهب أخرى لا يمكنها أن تتوافق مع إسلام العامة. وبدلاً من أن تشكل المدارس القديمة وفلسفاتها إضافة، تجعل منها مذهباً دينياً وتفسيراً للشريعة والدين والإيمان يجد مكانه ولو على الضفاف، اعتبرت وقتها هذه الأفكار الجريئة نحلاً انشقاقية، وتعاطى معها الفقهاء كطوائف وفرق على هامش المركز، وبقيت منبوذة مهمشة ومهبط التكفير.
في القرن السادس عشر ومع جلال الدين أكبر، ملك الهند المسلم، ظهرت أفكار دينية جريئة كانت إعادة تفسير للنصوص، تنحو نحو الانسجام مع كل الموزاييك والفسيفساء الدينية التي تعج بها الهند. في إيران جاء صعود الصفويين في القرن السادس عشر الذين كانوا سنة بالأساس وتبنيهم للاثني عشرية لتكون جُنة ودرعاً في مواجهة الخطر العثماني.
العنف ضد الآخر كان له ارتباط بالخلافات الكلامية المبكرة، وقبل فتنة خلق القرآن في عصر المأمون العباسي، بسنوات بدأت حركة محمومة لإعادة تفسير معنى المسلم المؤمن المعصوم الدم والمال. ومن غبار هذا الجدال الفلسفي / الكلامي ولدت إحدى أكبر الإشكاليات التي لا يزال المسلمون حتى اليوم يعانون منها وهي ما نسميه بالعقائد، عن تحديد من هو المسلم؟ هل المؤمن هو المسلم؟ وغيرها من المسائل.
الأفكار الكبيرة التي تؤثر على المجتمعات، وتلهم الأجيال، غالباً ما تكون كشواظ من نار، أحياناً يكون للأسطورة تأثير كبير في توليد الأفكار، ولكن هذا واحد من وجوه الأسطورة، فالخيال الجامح، أو المنكسر والمعذب واليائس هو عامل كبير في ولادة الأسطورة. لهذا علينا أن نعي تماماً أن الانكسار الذي أصاب الشعوب الإسلامية التي كانت أكثر من مرة في وجه الطوفان المغولي، دفعها إلى الانكفاء والغرق في التصوف واللامبالاة، وتتجلى هذه المعاناة في العالَم السني الإيراني في أشعار سعدي وحافظ، أي في الروح المعذبة لتلك المجتمعات البائسة، وجاء الصفويون في القرن السادس عشر أيضاً ليغذوا حس الأسطورة والخرافة في مناخ مهيأ وبيئة متقبلة. يمكن وصف ذلك القرن بأنه القرن العظيم لأكبر الأفكار التي تبناها الملوك المسلمون. والمدهش أنه كان هو القرن الذي بزغ فيه السلطان سليمان القانوني. وهو القرن نفسه الذي بزغت فيه الكالفينية واللوثرية.
جريدة الاتحاد
الإثنين 25 نوفمبر 2013