الأسبوع الماضي أتيح لي أن أعلق في برنامج تلفزيوني على إحصاء نشرتها جريدة «الوطن» السعودية عن ثلاث كلمات تداولتها حسابات لسعوديين على «تويتر» طوال العام 2015، دارت بين الليبرالي والكافر والملحد، وإحصائية أخرى حول الحب، الكراهية. وقد اعتبرها بعض من المعلقين دلالة على احتلال هذه الكلمات حيزاً كبيراً من قاموس المفردات واللغة اليومية للمغردين الذين اعتبروا سعوديين بناء على معرفاتهم. كلمة كافر احتلت الرقم الأعلى أكثر من مليار مرة، تلاها الليبرالي ثم الملحد. وبمقارنة كلمة الحب أو المحبة مقابل كلمة كراهية أربت هذه الأخيرة على سابقتها في التداول ثلاثة أضعاف تقريباً. هل يمكن حسبان هذه الإحصائية إشارة إلى أن ثقافة التكفير والكراهية تحتل نصيب الأسد من التفكير واللغة المتداولة في النقاش والحوار لأبناء مجتمع ما؟!
كنت في مقالة سابقة نقلت عن وزيرة فرنسية سابقة أن الشركات التي تمتلك وسائل التواصل الاجتماعي بما فيها «تويتر»، هي مسؤولة جنائياً عما ينشر فيها من تحريض على العنف أو استباحة الدماء، ونشر التطرف. ولكن ما ذكرتُه في مقدمة هذه المقالة هو أمر أكثر خطورة، فهذه الإحصائيات فضلاً عن أنها لا تعكس واقع ما يتداوله السعوديون على «تويتر» ولا غيرهم من أبناء الدول العربية الأخرى، فإنها أيضاً مضللة من جهتين: أولاهما أن ورود هذه الكلمات سواء كانت منبوذة ومضمخة بالدماء، أو كانت محببة، تغفل السياق الذي ذُكرت فيه، فكلمة الكفر والإلحاد والزندقة أو الكراهية والليبرالية كلها مجال للتداول في سياق الرفض أو النقاش أو التبني أو الإدانة أو مجرد جدل في المفهوم ومعناه وتحديد لوازمه وتوابعه.
الثانية، أنه تم اعتماد هذه المعرفات بناء على ادعاء أصحابها أنهم سعوديون، سواء كانت أسماء حقيقية أو حسابات رسمية أو مجهولة. ومع أنه لا يمكننا أبداً التأكد من حقيقة نسبة كبيرة من هذه الحسابات والدوافع الحقيقية لأصحابها، إلا أنه أيضاً يغيب عن بال المعلقين أو من قاموا بهذه الجردة، أن الواقع المعيش للناس، الحياة التي يكابدونها كل يوم، العلاقات الاجتماعية، والمصالح التي تحكم اجتماعهم ومعايشهم، هي أكبر وأوسع وأشمل من اختزالها. أي هل يمكن القول إن هذه الكلمات تشغل حيزاً كبيراً من قاموسنا اليومي؟
إن أي واحد منا يمكنه الإجابة عليها بأننا نذكر المدرسة والواجبات اليومية، والصلاة، والراتب الشهري، والسيارة والأبناء والبيت والمسكن، والآيفون، والإنترنت، وربما الوجبات الثلاث والاستراحة في العطل الأسبوعية آلاف المرات أسبوعياً بما لا تشكل فيه هذه العبارات السالفة الذكر نسبة يمكن مقارنتها بها. الحب والكراهية هي معان ومشاعر تنبجس تعبيراتها في حالات خاصة وفي مناسبات أيضاً خاصة، كما أن اللغة العربية التي نتحدثها، اللغة اليومية الدارجة، تمتلك عشرات المرادفات عن هذه المعاني، فالطيبة والمودة والأخوة والسلام وغيرها كلها تدور حول معانٍ متقاربة جداً. الأمر الآخر، أن البشر طبيعتهم كبشر حين يكونون في أمان من كشف هوياتهم أو من معرفة أسمائهم، وحين يكونون في لحظات من التحرر الذي يمكنهم من كتابة أي شيء من دون أن تمر كلماتهم برقيب قبل النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، يكونون أكثر نشوة وانطلاقاً من دون كابح. وخصوصاً إذا كانوا موقنين بأن أعين من يخاطبونه مباشرة لا تواجههم. الحياء والخجل يكاد يتلاشى والإنسان خلف الشاشة، لهذا نعلم كلنا أن الحياء في العيون، يقال إن الإرهابي كارلوس سئل يوماً: هل سبق لك أن أطلقت الرصاص على إنسان وعينك في عينه؟ فأجاب: لا، لهذا نعلم أن التماس بين البشر هو الحياة الحقيقية، وليس عالماً افتراضياً مهما كان تأثيره.