منصور النقيدان
قبل ثلاثة أسابيع كنت أتصفح كتاب ”ملوك آل سعود” للأمير سعود بن هذلول، وكانت نسخة يبدو أن أياد كثيرة قد تداولتها قبل أن تستقر أخيراً في مكتبة على ضفاف الخليج. وقد كتب ابن هذلول تاريخه وقام بطباعته في الفترة التي كان فيها أميراً لمنطقة القصيم، وفي صفحة الكتاب الأخيرة تعليق باسم يوسف بن إبراهيم الرشودي، كتبه في ديسمبر/ كانون الأول ,1961 وقد كان حريصاً على أن يعلق في وسط الكتاب بشكل خاطف عندما جاء ذكر والده الكبير إبراهيم العلي الرشودي أحد زعماء مدينة بريدة، ومن رجالات عقيل، وهي ثلاثة سطور كانت تقطر تحناناً وتوجعاً وتأكيداً للوفاء بالعهد على رغم ما أشار إليه من انقلاب الأحوال والشدائد التي عصفت، وهي كلمات تخفي بين سطورها، أكبر مما تفصح عنه. إن حب أهالي ”بريدة” لـمدينتهم، لا يوازيه إلا عشق أهل ”عنيزة” لبلدتهم، لكن كلتا المدينتين لم يكتب أحد من أبنائهما حتى الآن ما يستحق الذكر عن تاريخهما الاجتماعي والتطورات التي حدثت في شخصيتهما الثقافية والاجتماعية في الخمسين سنة الأخيرة وأسرار التمايز بين الجارتين الملتصقتين ببعضهما. لست أقصد هنا ما كتبه المؤرخون النجديون من وقائع وحروب، أو ما قد نجده منشوراً في السير الذاتية لبعض المثقفين أو المسؤولين والدبلوماسيين المتقاعدين على رغم أهميتها. أقصد ذلك المسكوت عنه بين السطور والذي يتركه المؤرخ الحصيف لفطنة القارئ، لقد ضجرنا من الإيماءات والشفرات، ونريد اليوم كل شيء واضحاً وجلياً. لقد سئمنا الجمجمة. نريد أن نكون كسائر خلق الله. نريد أن نقرأ تاريخنا لنعرف من نحن وماذا كنا وكيف صرنا. تاريخنا نحن العامة والرعاع. التاجر والدباغ والقصاب والمطوع وعيال الطقاقات.
هل يعقل أن يبقى كتاب العبودي عن عوائل القصيم حبيس الأدراج لثلاثين سنة، لأن بعض الأعراب يسوؤهم أن تنسب عوائل يستقذرونها إلى جدهم السابع والتسعين الذي كان معاصراً لنبوخذ نصر؟ أي هراء هذا؟
إن ما كتبه عالم ”بريدة” الكبير محمد الناصر العبودي في موسوعته البالغة الأهمية ”معجم بلدان القصيم”، واللمحة التاريخية المطولة التي كتبها عن ”بريدة” ونشأتها وأهم الحوادث فيها وتطورها العمراني حتى نهاية الستينات، هي أهم دراسة منشورة حتى الآن عن القصيم، وأكثرها دقة عن ”بريدة”.
هل يعقل أن يحتاج الواحد منا إلى أن يصغي إلى عشرات الشيوخ والعجائز، وعشرات الكتب ومئات الوثائق، لكي يستطيع أن يكوّن فكرة تقريبية عن الحياة الاجتماعية في الستينات والسبعينات في المدن التي نشأنا فيها ودرجنا بين حواريها؟ لقد أخذت أياماً للتأكد من حقيقة ما ذكره لي أحدهم من أن الناس في نجد وفي ”بريدة” خصوصاً، لم يكونوا يتعرضون للحاهم بالقص والتقصير، وأن من يفعلون ذلك لا يشكلون إلا نسبة لا تذكر من ”الزكرت”. ولكي أقوم بالتأكد من حقيقة ما ذكرته نشرة تعريفية بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أنهم كانوا (لا يوجد تحديد للمكان والزمان) يحتسبون على الناس في حلقهم للحاهم وتقصيرهم لها وتأديبهم على ذلك، لجأت في الأخير إلى عشرات الصور التي التقطت في فترات مختلفة منذ الثلاثينات الميلادية وحتى الثمانينات لوجهاء المنطقة وأعيان تجارها وأهل الحل والعقد من أهلها، فتأكد لي بشكل قاطع أن الغالبية الساحقة منهم لا تختلف عما هو عليه الحال اليوم، باستثناء واحد منهم توفي في شبابه في الستينات في بيروت كان حليق الذقن والعارضين، فإن البقية كانوا يهذبون لحاهم ويحلقون العارضين ويبقون الذقن، ونصف الصور التي رأيتها كان أصحابها يلبسون الغترة البيضاء، وليس ”الشماغ” الأحمر.
قد تبدو مثل هذه الأشياء غير ذات بال أو غير ذات أهمية، لكنها تشي بحقيقة أن الشباب الذين قاموا بمسيرة احتجاج في العام 1956 أمام قصر إمارة ”بريدة”، منادين بسقوط ابن بتال أمير ”بريدة” الضعيف وبسقوط أعضاء الهيئة ”النواب”، ومطالبين في الوقت نفسه بأن يسمح لهم بلبس الغترة البيضاء وبركوب الدراجة الهوائية ”السيكل”، إنما كانوا يقاسون من ظلم وتمييز لم يكن يخضع له الأعيان والتجار والأقوياء، الذين يحكمون زمام السلطة في المدينة، وهي إشكالية لازمت ”المطوِّعة” منذ وقت مبكر من الحضارة الإسلامية، حينما كانوا يحتسبون على العامة ويدعون بالمغفرة لفجار الولاة والخاصة.
إننا بأمس الحاجة إلى معرفة قصة تحول مدينة بريدة إلى الحالة الاجتماعية والدينية التي هي عليه اليوم؟ وهل صحيح أن هذا التحول إنما كان منبعه آل سليم بعد هجرتهم إليها إثر سقوط الدرعية في الثلث الأول من القرن التاسع عشر؟ ولماذا ”عنيزة” كانت في العقود الماضية أكثر انفتاحاً وعلماؤها أكثر تسامحاً، وأهلها أكثر حباً للحياة والفن؟ حتى كنتَ لا تجد في بداية الثمانينات من أبنائها شاباً إلا وهو يحسن عزف العود، أو عاشقاً لمجالس الطرب؟ ولماذا كان أهل ”العكيرشة” شرق ”بريدة” معروفين بحب الرقص وعشق الغناء حتى أن أحد أمرائها جرى إبعاده منها بأمر من الرياض أواخر القرن التاسع عشر تأديباً له بعدما أشيع أنه يعتاد حضور حفلاتهم؟ وكيف نشأت ”العجيبة” و”الحويزة” ولماذا كان الصناع والحرفيون يقطنون تلك الجهة خارج السور قبل أن ينتقلوا لحي الصناعة؟ نريد تاريخ العوائل الدينية في المنطقة وعن حقيقة ما ذكره أحد مثقفيها في رسالة كتبها لي ”إن من لا مجد له كان يجد العوض في الإيغال بالدين والمزايدة عليه”.
لقد كانت ”بريدة” مركز القصيم الذي قام بترشيحه أعضاء في البرلمان العثماني العام 1902 ليكون مرتكز الإصلاحات السياسية التي كانت الحكومة تنوي البدء بها لكسب ولاء أهل الجزيرة العربية. وكانت في الفترة نفسها تحوي خمس مدارس للبنات، وكان أحد أبنائها فوزان السابق من كبار الذين وقفوا مع حركة النهضة العربية، ودعم مادياً لتوزيع كتاب الكواكبي ”طبائع الاستبداد” وقام عبدالله المغيرة الأشيقري بتوزيع أكثر من مئة نسخة من الكتاب في بريدة ومدن نجدية أخرى بحدود العام ,1900 وساهم أهل بريدة على رغم الفقر والجوع والعوز في جمع تبرعات للجيش العثماني ضد الانجليز في الحرب العالمية الأولى، وكان الشيخ إبراهيم الجاسر أحد الذين قاموا بجمعها. ألا تستحق هذه الأرض ما يتناسب ومكانتها من الدراسات والأبحاث؟
لقد خدعت قبل شهور واشتريت كتاباً اسمه ”بريدة داخل الأسوار وخارجها”، ثم ندمت على كل ريال دفعته، كتاب لا تحتمل قراءته وركاكته إلا بخذلان من الله.
إن مقارنة ما كتبه حمد الجاسر في ”سوانح الذكريات”، من معلومات مهمة ووصف للحالة الثقافية والتعليمية والدينية في نجد منذ العشرينات الميلادية وحتى الستينات، وبين ما كتبه عبدالكريم الجهيمان في الذكريات لتجعل الواحد منا يشعر بخيبة الأمل، وكم يحزنني أن مرجعاً مثل عبدالرحمن البطحي وهو من أكثر أبناء عنيزة معرفة بتاريخها وبعوائلها وبتحولاتها وبتاريخ منطقة القصيم قد رحل من دون أن يكتب ما يستحق أن يكون مرجعاً مقروءاً وأثراً خالداً من بعده، إلا ورقات لا تعكس ما كان يتصف به من موسوعية، وقدرة فائقة على التحليل. كثير من الأسئلة لا يحب كثير من المختصين إثارتها ولا البحث عن أجوبتها، ولا وصف الصورة الاجتماعية بأمانة تاريخية تحكي لنا ما الذي حصل؟ لا أدري هل سنرى في القريب دراسات تحفر في التقاليد والعادات والموضوعات الاجتماعية التي تضاهي الدراسة الفريدة من نوعها والتي قام بها أبوبكر باقادر وثريا التركي عن مدينة جدة.